"عشتار"- كما تصفها المصادر التاريخية - "شابة ممتلئة الجسم، جميلة القوام، ذات خدَّين مُفعمين بالحيوية وعينين مُشرقتَين. تتسم، إلى جانب جمالها الأخّاذ، بروح سامية، وطبع رهيف، وعاطفة قوية؛ تحنو على الشيوخ والأطفال والنساء. في فمها يكمن سرُّ الحياة، ومن أعطافها يعبق العطر والشذى. يكتمل بحضورها السرور، ويشيع مع ابتسامتها الأمن والطمأنينة في النفوس.
وتحكي عنها الأساطير أنها تجوب الحقول بخفَّة ورشاقة، فتتفجَّر الينابيع خلفها بالماء والعطاء، وتُزهر الأرض بالسنابل والنماء. وقع في غرامها الشعراء، فخلّدوها بأعذب الأوزان وأحلى القوافي. وهام بحبِّها الأدباء، فوهبوها أجمل النصوص الملحميَّة. وعشقها الفنانون، فرسموها على أرشق الأختام الأسطوانية وصنعوا لها أرقى التماثيل التي تكاد تنطق بالحياة. وولع بها الموسيقيون فنغّموها لحنا راقصا على أوتار العود وفوهة الناي. تلكم هي (عشتار) عنوان الخصب والحبّ لدى سكان وادي الرافدين القدماء. ظهرت أول مرة في بلاد سومر في جنوب العراق، قبل أكثر من ستة آلاف عام، إما بشخصها المرسوم على الأختام الأسطوانية وبعض المنحوتات، وإما بالرمز الذي يدلّ عليها في الخطّ المسماريّ، وهو النجمة الثمانية التي تشير إلى كوكب الزهرة، ألمع الكواكب".
كان معبد عشتار الأساسي في نينوى بالقرب من مدينة الموصل، وعُرفت بعدة أسماء عند الكثير من الحضارات مثل "إنانا" و"أفروديت". ونُسجت حولها ومعها العديد من الأساطير التي يدور فلكها جميعا في التأكيد على سحر هذه المعبودة وقيمتها الجمالية ودورها في الخصب والمحبة.
"عشتار" التي كلما لاحت لنا خلف أبيات شاعر أو خيال سارد أو ألحان موسيقار، لاح لنا العراق الأبي وحط القلب مترعا بالحب بين "دجلته وفراته"، ورفرف الحنين الذي لا يخلو منه صدر عربي لهذه البقاع، الحنين والحب الممتدان من أول حفنة تراب جنوبا حتى آخر حجر شمالا. مدينة الموصل – كغيرها من مدن العراق الشهيرة- وما جاورها في ذلك الهلال الخصيب كانت مسرحا، منذ أن أسس الآشوريين نينوى، لصولات المحاربين وجولات الطامعين في موقعها المميز الذي يعد نقطة وصل بين عدد من الأقطار. وبعد الفتوحات الإسلامية وعصوره المتعاقبة حتى العهد الحديث لم تهدأ أعاصير الثورات والحروب والتآمر الذي ينهش جسد العراق ويطرق أبواب مدنها واحدة تلو الأخرى. منذ الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003، تنامى العنف الطائفي فيه بشكل عام وفي مدينة الموصل تحديدا حتى اندلعت الاشتباكات الدامية التي قادتها قوات مسلحة لمقاتلي "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) أحد فروع تنظيم القاعدة الإرهابي في السادس من يونيو الجاري وما أعقبه من أحداث درامية دامية من سيطرة "داعش" التامة على الموصل عاصمة محافظة نينوى ونزوح أعداد كبيرة من سكانها للمحافظات المجاورة، ثم ما تتوالى الأخبار عن سقوط تكريت وبيجي بأيدي المعتدين، وإزالة مقاتلي داعش للحواجز الحدودية بين نينوى العراقية والحسكة السورية، والتتابع السريع والمفاجئ للأحداث حتى هذه اللحظة. كل هذه الأمور دليلٌ على بقاء هذه المنطقة على فوهة بركان الحروب السياسية والفتن الطائفية التي ما فتئت تنهش ذاكرة الجمال وحقيقة الاختلاف الحضاري والفني الذي تُعرف به بلاد النهرين وموصلها.
مجرمو "داعش" حسب ما أظهرت مواقع التواصل الاجتماعي والوسائط الإعلامية وزعت تهنئة لسكّان الموصل بالاحتلال الجائر على مدينتهم والذي أسمته بالفتح الإسلامي العظيم!. كما نقلت وكالات الأنباء صباح الخميس الماضي أن مقاتليها يعلنون عبر مكبرات الصوت عن تهديدهم للسكان بالجلد 80 جلدة لمن يسميها بـ"داعش"، وينتشر أفرادها في طرقات المدينة ودوائرها الحكومية. وأظهر تسجيل فيديو متداول لبعض أفراد هذا التنظيم الإرهابي وهم يقتحمون أحد المقرات العسكرية تحت عنوان "غنائم المجاهدين في الموصل"، يستعرضون فيه ما تم الاستيلاء عليه من "غنائم"، ويتحدثون عن الآليات العسكرية التي تمكنوا منها. وبعيدا عن الجانب السياسي والطائفي في هذا الأمر وصراعاتهما النتنة، لا يغيب عمن يُشاهد هذا التسجيل لهجة المتحدث من مقاتلي داعش وانتماؤه الواضح ومن كان برفقته لدولة خليجية؛ وهذا ما توضحه أيضا الصورالمنتشرة لأفراد أو مجموعات يحملون علم هذا التنظيم الشهير.
انضمام أفراد مغرر بهم من السعودية، ومن دول خليجية وعربية أخرى إلى هذا التنظيم الإرهابي ليس بمستغرب، فـ"داعش" تُعرف كأكبر تنظيم يضم أعدادا كبيرة من الأجانب خاصة مع التحريض المنظم من الموالين والداعمين له بصورة جهرية أو خفية في الداخل والخارج، تحريض يأخذ طابع التدين والجهاد في سبيل الله والحث على الاستشهاد والوعد بالحور والأجور.
إن تورط أبنائنا مع هذا التنظيم، والتعاطف الذي يعلنه ويُسره بعض من في الداخل فتنة كبرى، يتوجب معها أن تلتفت الجهات المعنية إلى الحد من أصحاب الفكر الضال، المسبب لخروج هذه الأعداد للانضمام تحت لواء الإرهاب المستشري في كيان العالم، ولن يسلم منه قلب وطننا، ما لم نتحرك بشكل جدي، مؤسسات حكومية ومدنية وأسرا وتربويين، لتوعية الصغار والكبار بخطر هذه الفئات الخارجة على الدين والوطن.
وجه عشتار الندي الذي تحاول "داعش" أن تشوه اليوم حُسنه، سينتصر للجمال حتما، ويعود أيقونة للحب، كما عُرف عبر آلاف السنين، وأبناء الرافدين يذودون عن أرضها/أرضهم وينبذون التطرف والإرهاب ونتن الطائفية خارج بضاضته.