فطنة القراءة والتحليل والحدس، تنهض في داخلك حين تلتبس عليك بعض القصائد اللافتة والآسرة، وتحتم عليك قراءتها بروح وذائقة وجهد مضاعف، فقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي "إلى عرفات الله" والتي ينسرب مفتتحها بهدوء أخاذ وإشراقة عميقة الدلالة حين يقول: إلى "عرفات الله يا ابن محمد.. عليك سلام الله في عرفات، على كل أفق بالحجاز ملائك.. تزف تحايا الله والبركات"، ويواصل شوقي وصف مشاعر الحج ومناسكه عبر مخيال شعري متراسل، وفيوضات إيمانية مذخورة، ومناجاة وجدانية حميمة وبالغة الرهافة، وقد روى البعض مطلع القصيدة خلاف ما جاءت في "الشوقيات" حيث رويت: "إلى عرفات الله يا خير زائر.. عليك سلام الله في عرفات"، ولكن المتأمل لبعض مقاطع القصيدة وفضاءاتها يلمح إشارات عائمة، واعتذارية مبهمة ومناخاً نفسياً موغلا في الإحباط والرجاء واليأس عند شوقي وبالذات في قوله: "دعاني إليك الصالح ابن محمد.. فكان جوابي صالح الدعوات، وخيرني في سابح أو نجيبة.. إليك فلم أختر سوى العبرات، وقدمت أعذاري وذلي وخشيتي.. وجئت بضعفي شافعاً وشكاتي، ويا رب لو سخرت ناقة صالح.. لعبدك ما كانت من السلسات، ويا رب هل "سيارة" أو مطارة.. فيدنو بعيد البيد والفلوات"، ذكرت صحيفة "الوقائع" المصرية عام 1327هـ أن الخديوي عباس الثاني حاكم مصر سيقوم بأداء فريضة الحج في قافلة تحمل كسوة الكعبة المشرفة، وقد حددت النفقات وتكاليف الرحلة حسب الدرجات ووسائل النقل، فأقلها كما تقول الصحيفة "لو اتفق اثنان من الحجاج على السفر بجمل واحد فتكون القيمة 14 جنيهاً"، وكان ضمن الحجاج أمير الشعراء "أحمد شوقي بك"، الملقب بشاعر الخديوي ولكن "شوقياً" تخلف سراً عن السفر بعد وصوله مع الحاشية إلى السويس، وعاد إلى القاهرة فغضب الخديوي أشد الغضب، وهدد وتوعد أمير الشعراء، فكتب شوقي قصيدته "إلى عرفات الله" ليصالحه بها، وعندما هدأت ثورة الخديوي، وقبل اعتذار شاعره سأله لماذا تخلفت يا شوقي عن الحج معي؟ أجابه شوقي "كله إلا ركوب ظهور الإبل يا مولاي"، يقول المهندس ياسر صلاح قطامش في كتابه "حكاوي الولد الغلباوي، مشاهد من فكاهات القرن العشرين وأسراره" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية عام 1430هـ، وفي الصفحة 131 "رغم أن شوقي لا يصلي ولا يصوم ولم يحج، فإنه شديد الإيمان شديد العشق لرسول الله، شديد التعصب لأمجاد العرب، وبكى مرتين لما آل إليه حالهم عند زيارته للمسجد الأموي بدمشق، ومسجد قرطبة بالأندلس "غفر الله لشوقي فقد أوصى أن يكتب على قبره: "يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي.. وكيف لا يتسامى بالرسول سمي، إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل.. في الله يجعلني في خير معتصم".