يتكون الإعلام الداخلي في أية جهة حكومية من أربعة عناصر رئيسة تقريبا، وهي: التقرير السنوي، ومجلة إعلامية تصدر دوريا، والموقع الإلكتروني للجهة على شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى إصدار كتب دعائية، وإرسال تصريحات مسؤولي الجهة إلى الوسائل الإعلامية المختلفة.
والعناصر السابقة للأسف جميعها تهدف إلى تلميع صورة المسؤول وتضخيم منجزاته في بعض الجهات الحكومية، وليس إلى إيصال رسالة الجهة، وتفعيل التواصل بينها وبين المواطنين كما هو مفترض، ولا أبالغ إن قلت إن هذا "التلميع" قد يكون الهدف الرئيس لبعض المسؤولين وذلك على حساب الأهداف الحقيقية للجهة الحكومية نفسها.
فقد نجد أن عدم اكتراث بعض المسؤولين بمجريات الأمور والعمل في جهاتهم، وعدم مبالاتهم بذلك، وتفريطهم حتى في القيام بواجباتهم المطلوبة منهم، بقدر اهتمامهم بالصياغة الإنشائية واللغوية للتقارير السنوية، والحرص على مراجعة مسودات المجلة قبل إصدارها، وقضاء الساعات الطويلة في مراجعة الصيغ النهائية للتصريحات وإعداد الكتب الدعائية التي ليس لها علاقة بأعمال الجهة نفسها، وإنما بالسيرة الذاتية لهذا المسؤول.
فلو أخذنا أولا التقارير السنوية لبعض الجهات الحكومية، التي من المفترض أن توضح مدى تحقيق الأهداف المرسومة وتحديد الانحرافات، والصعوبات التي تواجها تلك الجهات، فالهدف من إعداد هذه التقارير هو رقابي في المقام الأول ولأغراض المساءلة، ولكنها تحولت إلى تقارير دعائية تتضمن تحقيق جميع الأهداف بكفاءة وفعالية، بالإضافة إلى غزارة الإنتاج التي ربما جاوزت الدول الأكثر تقدما، أما الصعوبات فقد تحولت إلى مجرّد طلب حوافز مادية أكثر لكبار الموظفين في الإدارات العليا.
وكذلك على سبيل المثال، موضوع التدريب والابتعاث، نجد أنه وضع له فصل خاص في التقارير السنوية، يتحدث عن تدريب ورفع المستوى المهني للموظفين وإلحاقهم بالمؤسسات التدريبية والمنظمات والهيئات المتخصصة داخليا وخارجيا، ورفع مستواهم العلمي عن طريق برامج الابتعاث للحصول على درجة الماجستير، ثم نجد إحصاءات وجداول ورسوم بيانية بألوان براقة تسر الناظرين، توضح كيف زادت معدلات التدريب في السنوات الأخيرة بشكل ملفت للنظر، وذلك لتضخيم منجزات المسؤول.
وفي الواقع، فإن معدلات التدريب قد انخفضت بشكل كبير، والدورات التدريبية ما هي إلا برامج مكررة ولعدد محدود من الموظفين، والابتعاث ربما لم يبتعث إلا موظف واحد في الجهة وعن طريق الواسطة والمحسوبية، ومخصصات التدريب قد حققت وفورات مالية تم نقلها إلى بنود أخرى، ونقيس على ذلك باقي الأهداف الموجودة في التقارير.
وبالتالي، فإن هذا الإحصائيات عن إنجازات تلك الجهات وعن عطائها وخدماتها قد ضربت رقما قياسياً من خلال التقارير السنوية، وعليه فإن القارئ لهذه التقارير يعتقد أن مثل هذه الجهات تعد مثالا نموذجيا يحتذى به لباقي الجهات الحكومية الأخرى، ولكن لو تم إجراء تحليل ودراسة بسيطة للمعلومات والبيانات التي تضمنتها تلك التقارير، وليس مقارنة بالواقع فقط، لوجدنا التضارب والتناقض في هذه المعلومات والأخطاء الفادحة فيها.
أما بالنسبة للمجلات التي تصدرها تلك الجهات، فحدث ولا حرج، فلا تكاد تخلو صفحة من صفحات المجلة عن خبر عن المسؤول وصوره، والندوات والمؤتمرات المحلية والدولية التي شارك فيها، والعقود والصفقات التي أبرمها مع الشركات والمؤسسات، بالإضافة إلى أخبار عن عقده عدة اجتماعات مع كبار الموظفين والمديرين، وصوراً تظهره منهمكا كل الانهماك في العمل، وأخبار تافهة ليس لها أهمية ومكررة في المجلة الواحدة، ويقسم الخبر إلى خبرين، وفي نهاية المجلة مقالة أو مقالتان عن المعايير المهنية والدولية، وكيفية تطبيقها في تلك الجهات، مما يعطي انطباعا للقارئ أن هذه مطبقة بالفعل عند أداء العمل على أرض الواقع.
أما فيما يتعلق بالمواقع الإلكترونية، فهي لا تكاد تختلف عن المجلات من حيث المضمون، فنجد مواقع رديئة فنياً، تتضمن مواد إعلامية ضعيفة وغير مهنية، بالإضافة إلى وجود معلومات لم يتم تحديثها منذ سنين طويلة، سوى أخبار ليست ذات أهمية عن المسؤول وسفرياته والمؤتمرات الدولية التي حضرها للاستفادة من تجارب الآخرين والتعرف على أفضل الممارسات المهنية في حقول اختصاص الجهة، والندوات التي نظمتها الجهة التي ألقى فيها المسؤول كلماته الرنانة.
وبخصوص الكتب الدعائية، فهي تتحدث عن الجهة الحكومية ظاهريا، ولكنها في الحقيقة تتحدث عن إنجازات الجهة في عهد المسؤول، فهي تستعرض بدايات الجهة تاريخيا، وبصورة ساذجة تتحدث عن كيف كانت تعمل الجهة بشكل بدائي أيام المسؤولين السابقين، وهذا يعني أنهم ليس لهم عطاء يستطيعون أن يفخروا به، ولكن في عهد هذا المسؤول يلاحظ التطور السريع لأداء هذه الجهة، كما تتضمن هذه الكتب معلومات مغلوطة عن المشاريع التطويرية التي تم إنجازها، التي في حقيقتها مشاريع فاشلة أو متعثرة.
هذا باختصار شديد عن الإعلام الداخلي في بعض الجهات الحكومية، الذي يفتقر إلى المهنية الإعلامية، ويهدف فقط إلى رضا وتلميع المسؤولين، علماً بأن المسؤولين للأسف هم من يشرفون على تلك الوسائل شخصيا، ويصبون جل اهتمامهم عليها، على حساب مهامهم الوظيفية الأساسية، وربما هناك من يقوم بنفسه بصياغة التقارير والأخبار التي يجب أن يتم نشرها.
وعند انتقاد هذه الجهات، يكون الرد قاسياً بأن ذلك يخالف الواقع ويشوش على الرأي العام ويضر بالمصلحة العامة، بينما ما يكتبونه وما ينشرونه من معلومات مضللة وكاذبة وخاطئة يعد ممارسة إدارية نزيهة وفي صالح المواطنين والمجتمع!، لقد نسي هؤلاء أن كثيرا من الناس ما عادت تخدعهم هذه الأساليب، وأي متتبع فاحص لما تقوم به مثل هذه الجهات يدرك دون عناء، تدني إنتاجها وأدائها، وانحدار مستواها، وأي مسؤول يقوم بمثل هذه الممارسات وهذه الدعايات المضللة فإنه يقدم صورة سيئة عن الجهة التي يعمل بها، على عكس ما يراد منها تماماً.