أحداث اليوم هي نتيجة لما حدث بالأمس، كذلك أحداث الغد ستكون نتيجة لما يحدث اليوم، ولا يمكن الفصل بين الأمس واليوم والغد، فالأحداث والوقائع بين هذه الأزمنة تأتي مترابطة متلازمة.
المسألة كبناء يتكون من عدة طوابق لا يمكن تعليق طابق في الهواء بلا اتصال بين طابقين أو استناد على طابق، كذلك لا يمكن ألا يتأثر الحاضر بالأمس، وألا يؤثر على الغد.
اليوم نحن ولله الحمد نعيش في ترف، هذا الترف والنعيم لم يأت بلا مقدمات، إنما جاء نتيجة تضحيات الأمس، لقد كان هذا الوطن بِكرا في بداياته، ولم يبلغ الرشد إلا بالكثير من التضحيات والجهود المضنية، والسير في طرق شاقة دامية غير معبدة، لقد وضع الجيل السابق اللبنات الأولى في ظروف شديدة صعبة؛ من أجل الوصول بالوطن إلى هذا الترف الذي نعيشه اليوم.
والمؤسف أن تؤول مجهودات الماضي إلى هذا الواقع، الواقع الذي نعيشه لنستهلك لا نستهلك لنعيش، نأكل لنأكل ونتكاثر لنستهلك ثم نستهلك لنأكل ونتكاثر، نستهلك لمجرد الاستهلاك هكذا بلا هدف كأن هذا الترف سيدوم إلى الأبد، وإنه وإن زال ـ لا سمح الله ـ فبأيدينا حين أسرفنا ونسينا حياة الأمس وغضضنا الطرف عن قراءة تاريخ الأمم السابقة والمجتمعات من حولنا، كيف كانوا وإلى أين انتهى بهم الحال.
لقد فقدنا نظرتنا إلى الغد في ظل هذا الترف الذي نعيشه اليوم، نرفل في النعيم متناسين أن حياتنا لا تصمد بذاتها، إنما تحتاج إلى رعاية دائمة مستمرة، أو سنسقط في ظل عوامل تعرية لا ترحم، نعيش الحاضر كأن نعيمه دائم لا يزول، فقدنا التبصر بعواقب الأمور، أو ربما تكون المسألة استهتارا وعدم حكمة.
نعم، ليس الجميع مسرفين مبذرين، إلا أن الإسراف والتبذير باتا ثقافة يتشارك فيها كثير من الأغنياء وميسوري الحال والفقراء. أغنياء يسرفون وآخرون يقترضون ليقلدوا "وكلهم سفهاء".
إن كان الغني وميسور الحال يملك المادة التي تساعده على الإسراف، فهو لا يملك الحق حتى يبذرها كيفما شاء، ويجب أن يعاقب المسرف على إسرافه، ليس حفاظا على الموارد فقط، إنما حتى لا يتحول الإسراف والتبذير إلى ثقافة أكثر مما هي عليه الآن. الموارد ليست لليوم فقط إنما للغد أيضا، للأجيال القادمة التي ستعاني جراء هذا التبذير والاستهتار.
يأتي لأحدنا ضيف فيذبح له ذبيحة لا يؤكل منها إلا لقيمات ليرمي الباقي في المزبلة. في المناسبات الاجتماعية المختلفة "يهايط" الكثيرون سعيا وراء المدح والثناء ليلقي بعدها كل شيء "المدح والثناء والطعام" في القمامة حتى قبل أن يذهب المدعوون. تتناقل مواقع التواصل بين الفترة والأخرى صورا ومقاطع لأكوام من الأرز واللحم وهي ملقاة فوق التراب، وصورا ومقاطع أخرى لصحن ضخم يتوسطه "حاشي" وحوله مجموعة خراف، رغم أن المدعويين لا يتجاوزون الخمسين. يدخل أحدنا مطعما فيطلب فوق طاقته، ليترك ما بقي للمزبلة. سيحاسبنا الله على كل هذا، سنتجرع مرارة هذا الهدر غير المسؤول.
أحد الأفغان بكى حين رأى الطعام هنا في حاويات القمامة بجانب الأوساخ، ثم قال: لقد كانت أفغانستان دولة متمدنة وكنا مرفهين فيها، وقد تذكرت وأنا أشاهد كل هذا الطعام في نفاياتكم كيف كنا نلقي الطعام بنفس الطريقة، وها نحن نرى إلى أين انتهى الحال بهذه الدولة، فهل ننتظر حتى نصير إلى ما صارت إليه؟ أم نسارع إلى شكر النعم والحفاظ عليها حتى لا تزول؟!
لا يكفي أن تنشأ الجمعيات الخيرية المعنية بتلقف الطعام الزائد لإعادة توزيعه على المحتاجين، لا يكفي أن نتصدق بفائض الطعام، لا بد وأن تتكون ثقافة اعتدال ومحافظة على هذه النعم في المجتمع، ومثل هذه الثقافة لن تتكون بذاتها ولا بالتوعية والوعظ مهما كتب الكُتاب وخطب الخطباء، لا بد من فرض عقوبات قانونية في حق المسرفين والمبذرين، غرامة وعقوبة يعاقب بها كل من يهايط ويتباهى في المجتمع بهدر الطعام، ومن كان يعتقد أنه حر في ماله سيقتنع بالقانون أنه ليس حراً في هدر أمواله كيفما شاء.
قال علي بن أبي طالب "رضي الله عنه": "ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت به فهو لك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان"، فلنكرم الضيف، ولنُظهر أثر النعم، لنتحل بالكرم والجود، لكن باعتدال لا إسراف ولا تبذير، بوعي وتحضر، إن الأوان لم يفت بعد، هنالك جيل سيأتي مستقبلا يستحق أن نؤمن له حياة كريمة، كما أمّن لنا الجيل السابق حياة اليوم.