ما بين ليلة وضحاها أصبحنا أسرى للقيد العنكبوتي الذي نصب شباكه غير الواهية حولنا لننغمس كلية في هذا العالم الافتراضي أو السيبراني، نتواصل من خلاله، ونستقي معارفنا من خزائنه، ونتعارف ونتعارك عبر شبكاته الأخطبوطية، حتى وصل الأمر ببعضنا إلى درجة الإدمان على غرف البالتوك، والفيس بوك، والتويتر، وغيرها من المواقع الاجتماعية التي باتت البديل الافتراضي للعلاقات الواقعية التي تتشكل عبر التواصل الإنساني الحميم المباشر الذي تمليه الطبيعة البشرية، ويتمظهر بشكل جمعي في المناسبات والأعياد. وليتها ظلت مقتصرة على أجهزة الكمبيوتر لأمكن إغماض الجفن عنها برهة من اليوم، لكنها أصبحت مزروعة في أجهزة الهواتف المحمولة التي تتبعنا في غرف النوم، فأرخص جهاز اليوم يحمل تقنية الواي فاي، والاتصال بالشبكة، وبعضها تأتيك محملة بكل هذه المواقع. ولا ننسى هنا برامج التلفزيون التي استحوذت عليها الشبكة العنكبوتية، ووفرتها لمستخدمي الإنترنت. فكيف الفكاك وأين المفر؟.

هل نعتبر ما حدث لنا منذ بداية الألفية الثانية من طفرة إنترنتية، وتوسع في استخدام الأجهزة الإلكترونية التي تفتح لنا أبواب هذا الفضاء السيبراني المهول، نعمة أم نقمة؟، وإلى أين سيقودنا كل هذا الضجيج الإلكتروني الذي يموج بين أصابعنا، وبلمسة واحدة يسافر بنا في كل الاتجاهات فلا نعود نركز لكثرة المعروض وتداخل الأصوات، وتكدس الروابط والأسماء، وابتذال كلمة "الصداقة" لكثرة الأصدقاء لدرجة نسيانهم بعد تسجيلهم مباشرة!.

هذا الضجيج السيبراني الذي أخذ يفتك بأوقاتنا أصبح اليوم مكوناً من مكونات ثقافتنا، ونمطاً حياتياً، خاصة في أوساط شبابنا وفتياتنا، ويقود إلى عبث وتسطيح لكثير من قيم الحوار واكتساب المعرفة. إنه الضجيج الأبيض، الذي بتنا نصحو عليه وننام، كما أسمته الدكتورة كيت كراوفورد، الباحثة في مركز البحوث العلمية في جامعة نيو ساوث ويلز في سيدني، والمهتمة بهذا الجانب وانعكاساته السلبية. وكمصطلح علمي، يعرف "الضجيج الأبيض" بأنه "الضوضاء المستمرة غير المتقطعة، وتتميَّز بصوتها المتجانس الذي لا نشعر به بعد فترة من سماعه".

ولا تبدو محاولة التحرر كلية من هذا الضجيج ممكنة، إذ إن التقنية الإلكترونية المرتبطة جذرياً بالإنترنت قد فرضت علينا فرضاً، لدرجة يصعب معها هجرها والتقهقر والتخلف عن الركب. لكن يمكننا بقليل من الوعي والحكمة التخفيف من تداعيات هذا الضجيج بالتحكم في أوقات استخدام الكمبيوتر والمحمول، وبتخصيص أوقات للقراءة خارجه، والأهم هو خلق وعي مستديم بخطر الانغماس فيه والاعتماد عليه كلية.

لقد آن الأوان، كما تقول كيت كراوفورد للتفكير جدياً وإصلاحياً في التأثير المشترك لهذه التكنولوجيات في المساحات التي نشترك فيها سواء في المنازل أو المكاتب أو المدن؛ وأن نسعى لخلق مبادئ إعلامية مستدامة تكرس لأخلاقيات الاتصال وتعطي الأولوية للإنسان.

نحتاج فعلا لمساحة من الصمت والوحدة بعيداً عن ومضات العتاب على الشاشات كالرشاشات!.