حدثت توسعات بنيانية للمسجد الحرام في السنوات الأخيرة، وهي توسعات تخدم ـ بلا شك ـ زائريه من معتمرين ومصلين، ولكن ليس من المعقول أن يستمر التوسع البنياني تبعا لزيادة المسلمين، فهذا يقتضي أن يكون حجمه ضعف حجمه الحالي إذا بلغ المسلمون عشرة مليارات، وضعف الضعف إذا بلغوا عشرين مليارا، وهلم جرا حتى يجتاح التوسع أغلب مكة، ومكة لا تحتمل كل هذا، سواء في التثمين أو الإنشاء أو استحواذ التوسعات على مساحات كبيرة منها، مع الاستمرار على هذا النهج، خاصة مع تطور وسائل المواصلات التي ستنقل المسافرين إلى مكة مع رخص ثمنها كالقطارات التي ستنشأ بداخل المملكة والتي قد تصل للخارج، ومع كثرة تنافس شركات الطوافة، فكل هذا قد يزيد من أعداد مرتادي المسجد الحرام، ولذا لا بد من إحداث توسعات نظامية وفكرية.
أما النظامية، فهي وضع حد نظامي لمرتاديه من معتمرين ومصلين، وهذه موجودة لمعتمري الخارج وللحج، ويجب أن يضاف لها معتمرو الداخل خاصة في رمضان كأن تكون كل سبع سنوات، والمصلون كذلك خاصة في ذي الحجة ليكون أغلب المسجد الحرام مفرغا للحجاج ويمنع من دخوله من ليس حاجا نظاميا ولا يوجد ما يمنع من ذلك شرعا إذا وجدت مصلحة.
وأما الفكرية ـ وهي الأهم ـ فهي إيجاد الوعي عند العامة بأن العمرة أو الطواف ليسا من أبواب الأجر الكبيرة التي تجعل الشخص يتكبد عناء السفر لأجلهما، وأن أي وقت يمضيه المسلم في صلاة أو ذكر أو قراءة قران هو أفضل من قضائه في العمرة نفسها فكيف بسفرها، وكل مال ينفقه على غير العمرة من أبواب الخير هو أكثر أجرا من نفقات العمرة، فالعمرة لم تذكر مستقلة في الفضل في أي آية أو حديث نبوي، وإنما لا تُذكر إلا تبعا للحج على أنها جزء منه، ففضلها ضمن فضل الحج كفضل الوقوف بعرفة لا فضلها هي خاصة بما في ذلك عمرة رمضان، والتي يتهافت الناس عليها، فليس بها كبير أجر فهي متعلقة بالحج أيضا ولكن لمن فاته، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعتمر إلا مرة واحدة قبل أن تكون مكة تحت سيطرته، ومرتين بعد أن سيطر عليها مع أنه عاش ستة أشهر بعدها، وهاتان العمرتان إحداهما تبعا لحجه أي جزء منه فلا تحسب كعمرة، والأخرى في شوال، ولم يجعلها في رمضان، مع أنه فتح مكة في بداية العشر الأواخر من رمضان، ولم يعتمر وهو بداخل الحرم واكتفى بالطواف؛ لأنه تحية الحرم، ثم مكث العشر الأواخر كلها بجوار الحرم ولم يعتمر، ولو قلت لشخص: إن شخصا دخل مكة في العشر الأواخر من رمضان ولم يعتمر، لتعجب من فعله مع أنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفسر ذلك الحديث وهو قوله للمرأة: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي"، وأن معناه لمن فاته الحج فقط، فلا يمكن أن يكون هناك أجر في قُربة محضة، ولا يفعلها النبي، بخلاف غير المحضة، كالوسيلة لعبادة، فقد يرشد إليها النبي ولا يفعلها، كالأذان والرباط في الثغور وغيرها، وحديث "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما"، لا يدل على فضلها، وإنما يدل على أنها من ضمن العبادات لا غير، فقد ذكر النبي هذه الفقرة كمثال من ضمن الأمثلة التي ذكرها لتكفير الذنوب، كرمضان والجمعة فموضوعه تكفير الذنوب لا فضل العمرة، وتكفير باقي القربات للذنوب أكثر من تكفير العمرة لها؛ لأنها أفضل منها.
إن المهمة الملقاة على عاتق الدعاة وعلماء الدين في التخفيف من الازدحام أكثر من مهمة الدولة أو الجهات التي تنشئ المشاريع، فعليهم أن ينبهوا الناس، وأن يحثوهم على قضاء وقت العمرة أو حتى الطواف فيما هو أفضل منهما في بلدانهم إذا سئلوا عن أحكام العمرة من إحرام أو تحلل أو غيرها من أسئلة العمرة المعتادة، بل إنهم هم أنفسهم سيرتاحون من عناء الإفتاء في العمرة وإحرامها ومحظوراتها ومواقيتها وغيرها التي يكثر عنها السؤال، وأن ينشر هذا في كل أرجاء العالم الإسلامي، وعلى المعتمر الذي يشغل مقاعد الطيران ويحرم مسافرا محتاجا للسفر إلى جدة لعلاج أو عمل أو غيره أن يعلم أن إثمه قد يذهب بأجر عمرته، فلا يخفى مدى الصعوبة البالغة في الحصول على مقعد طيران للسفر إلى جدة في رمضان.