التقيت بـ"شيري" في التدريب الذي أقيم في عام 2011 لطلاب الإعلام من مختلف مناطق العالم العربي، وكان من نصيبي أن تكون "شيري" المصرية، جارتي في المكتب الذي سنتدرب فيه.
قبل أن أدخل في التفاصيل المختلفة، عليكم أن تعرفوا أن العلاقة الجميلة التي تورطنا فيها نحن الاثنتين، جاءت بسبب أن عائلة "شيري" تقطن في ذات المدينة التي أسكنها، فوالدها طبيب عظام، يعمل في أحد المستشفيات الشهيرة، لذا فسريعا ما بدا الانسجام واضحا بيننا.
لم تكن "شيري" تتجاوز الثانية والعشرين من العمر، وكانت قد تخرجت لتوها في الجامعة الأميركية، ولفت انتباهي أنها ترتدي الحجاب الإسلامي بطريقة محتشمة وحديثة، وكانت أكثر ميلا للهدوء مني، وكان الجميع يعتقدون أنها أكبر مني عمرا، ولكن كيف لي أن أخبركم بالسعادة التي كنت أعيشها، وأنا آتي كل صباح إلى المعهد في بلد غريب، لأجد فتاة أقضي معها أوقاتا طويلة ونحن نعمل دون هوادة، خاصة أنها كانت تفوقني قدرة على الترجمة، وأفوقها قدرة على تحرير الخبر ما بعد الترجمة، لذا كانت أعمالنا محط أنظار الجميع في المعهد.
وفي فترة الغداء، كنا نتسلى في الحديث عن حيواتنا المختلفة، فحدثتني "شيري" عن عشقها لمصر، وعن جمال حياتها، خاصة تلك اللحظة التي كانت تذهب فيها إلى دار الأوبرا مع جدتها، هنا توقفت عن إكمال الطعام وقلت لها متفاجئة: جدتك تذهب إلى "الأوبرا"، فردت بهدوء: "نعم"، لا أعرف لماذا سريعا تخيلت جدتي ـ يرحمهما الله ـ "سارة" و"وضحة"، وهما يقرران الذهاب معي إلى دار الأوبرا، أظن أنهما سيضرمان النار بي دون تفكير، فقد كانت أجمل لحظات حياتهما التي عاشرتهما فيها، حينما نزور القرية، ونذهب إلى أعراس أحد أقربائنا، وتبدآن في الرقص، ترافقهن نساء أخريات، يا إلهي أي جمال عاشته هاتان السيدتان الرائعتان، وأي حياة استوصت بهما خيرا، وها هي "شيري" تتحدث لي عن جدتها، وتريني صورتها وهي ترتدي الفستان الأسود الجميل، وتضع "بروشا" لامعا على صدرها، وقد صبغت شعرها بالأشقر الغامق، كانت السيدة صافيناز أميرة لا تشبه جداتي الرائعات أبدا.
كنا كل يوم نكمل أحاديثنا التي لم نكن نستطع أن ننهيها، بسبب الأعمال التي يكلفنا بها المعهد، عرفت أن "شيري" لم تعش حياة عادية، فقد كانت عائلتها تهتم بشكل كبير بدارستها، لذا فقد أمضت حياتها مع الغرباء أكثر مما أمضته مع عائلتها الصغيرة، وكانت تشكو لي من سوء تعامل بعض الجنسيات معها، إذ إنها أكملت دراسة الثانوية على سبيل المثال في "أكاديمية القاعدة البحرية الأميركية" بالبحرين بعيدا عن أسرتها، واختارت لها عائلتها أن تكمل الجامعة في الشارقة، والآن تقضي وقت التدريب في بلد أوروبي، لم أشعر للحظة بالحسد على الحياة التي عاشتها "شيري"، وهي تمارس وحدتها يوما بعد يوم، مع زملاء لا ينتمون إليها وطنا أو حتى يتناسبون مع قيمها الشخصية.
وحينما جاء الحديث عن حياتي الدراسية، قلت لها وأنا أتثاءب الفرح والملل معا، درست في مدارس عادية جدا، وكانت أفضل مدرسة حينما تكون "قصاد" البيت، مما يعني لو نسيت دفتر العربي، فكل ما علي أن أتصل على الخادمة لتحضره لي، كما أن كل مدرسة كنت أنتقل إليها، كانت ممتلئة بفتيات الحي والجيران وبنات عمومتي، تخرجت بامتياز، ودخلت جامعة حكومية وتخرجت فيها، وبعد ذلك درست في البحرين، لم تتعب عائلتي معي كثيرا، حالي كحال معظم أبناء السعودية، لذا، لا جديد يمكنني أن أقدمه لك.
انتهت الأسابيع، وعدنا إلى أوطاننا، وعادت "شيري" معي إلى السعودية، بعد فترة تزوجت "شيري"، وأنا أكملت حياتي المهنية، وأصدرت مؤلفاتي، وبدأت في السفر ومشاركة نجاحات فتيات قبيلتي بالزواج والخطوبة والتخرج وغيرها، والحياة بالنسبة لي كما هي.
وتذكرت قبل أسابيع "شيري" فحاولت التواصل معها، فعرفت أنها تعيش الآن في آخر بقاع العالم مع زوجها "هادي"، وتربي ثلاث قطط، وأحيانا تعمل من منازلهم.
مقالي ليس تحريضا على شيء ألبتة، لكني لا أعرف لماذا شعرت بالغضب من عائلة "شيري" التي كانت ترى أن الدراسة والتعليم أهم من وجود أحد أبنائها معها، لذا سعت بشكل مبكر إلى تغريب "شيري" منذ عمر الخامسة عشرة؛ لإيمانها بأن تلقي التعليم أهم من أي شيء آخر في الحياة، والآن انظروا ماذا حدث لحياة "شيري" التي عاودت الدخول في غربة أخرى، بعد عدد من الغربات المختلفة، تربي قططا في آخر بقاع العالم، وأنظر إلى حالي، فأنا أعيش بكل جدارة دون "أوبرا"، وأنا الفتاة التي خرجت من أسرة بها 11 فردا، أستطيع أن أقول إنني مشبعة عاطفيا؛ لأنني ظللت لفترة طويلة تحت كنف عائلتي، والأهم من كل ذلك، أنني كنت متفوقة، وكان الأمر طبيعيا لعائلتي، فالأهم أننا بخير، والأهم أن خياراتنا تكون صائبة، وأن نكمل دراستنا دون ضغوط، وأحيانا دون غربة قسرية!.