"عندما يقدر لك أن تقرأ كتابات (بني علمان)، أو تتحاور معهم تجد أنهم متشبعون بالنظرة الغربية للدين، وبتاريخهم المعاصر، وتناسوا أو تغافلوا عن نماذج كثيرة غير غربية متفوقة: نموذج (اليابان) الذي لا يتحدث عنه (بنو علمان) كثيرا!! لأنه يهدم نظرتهم القاصرة؛ حيث استطاعت هذه البلاد أن تبز الآخرين بمن فيهم الغرب في مجال التقنية، مع محافظتها على (ثقافتها) في مواجهة الغزو الفكري الغربي".
القول السابق هو قول أحد الدعاة، الذي يستشهد بالتجربة اليابانية في مواجهة الغزو الفكري والرد على العلمانية بالقول بأن اليابانيين يعيشون أرقى التقنية والتطور العلمي، ومازالوا حتى الآن يحتفظون بثقافتهم وتقاليدهم ويعيشون مع تراثهم.
ولا شك أن اليابانيين قد جمعوا بين مظاهر الحداثة وثقافتهم الأصيلة، ولكن السؤال المطروح هنا: هل يقبل الدعاة ورجال الدين تطبيق النموذج الياباني في المجتمعات الإسلامية؟
فاليابانيون سمحوا للمرأة بمشاركة الرجل بالعمل في المصانع والشركات، وابتعثوا أبناءهم وبناتهم إلى أوروبا، واستخدموا النموذج الغربي في التعليم، وترجموا الكتب الأدبية الغربية إلى لغتهم، واقتبسوا من القوانين الغربية في نظامهم القضائي، وفتحوا المسارح ودور السينما في بلادهم.. فلماذا إذن يقاوم بعض الدعاة مظاهر الحداثة ويعتبرون ذلك من المخططات التغريبية التي تهدف إلى سلخ الهوية والثقافة الإسلامية في المجتمع المسلم، في حين أنهم يستشهدون بالتجربة اليابانية؟ أليس هذا بتناقض؟!
قد يتناسى بعض الدعاة ورجال الدين أن الانسجام والتناغم الموجود بين الحداثة والثقافة اليابانية أسهل بكثير من تناغم الحداثة مع ثقافتهم، ففي اليابان أكثر من 800 ألف رمز ديني، شخصي وعائلي، وعلى هذا الأساس فإن مواجهة الياباني للأمور المقدسة تكون يسيرة للغاية، فالإنسان الياباني لا يحتاج إلى تغيير الكثير من المفاهيم والاعتقادات واستبدالها بسلسلة أخرى من المفاهيم الجديدة.
هذا بالإضافة إلى أن مفهوم الدين في اليابان، يختلف تفسيره على ما اصطلح عليه الناس هنا، والذي هو عبارة عن جماعات من الناس، يؤمنون بعقائد معينة، ويمارسون الشعائر والنشاطات، ولديهم المؤسسات الخاصة بهم، وإنما الدين عبارة عن تقاليد لا تفرضها القوانين أو الدولة، ويقول أحد الباحثين عن الدين في اليابان إنه نوعان، أحدهما لعامة الناس، ويتجلى في حوالي 80 ألف محراب كما ذكر آنفاً، والآخر خاص بالإمبراطور، حيث يوجد "في القصر الإمبراطوري مذبحا كبيرا للشنتو مشابها للمحراب العام، مع وجود نظام شعائري يضمن تبجيل الناس للإمبراطور، وشنتو الدولة يتضمن طقوسا خاصة بالعائلة الإمبراطورية، لا يشاركهم فيها أحد، وبالتالي نحن إزاء معتقد جزئي من معتقد يخص أفرادا معينين لا جماعة دينية".
وبناء على ما سبق، فإنه يمكن القول بأن المجتمع الياباني هو في الحقيقة مجتمع علماني على وجه من الوجوه، فالشعائر الدينية فقط تتعلق بالقصر الامبراطوري وحده، والتقاليد مجرد رموز دينية بالنسبة للناس تتمثل في طقوس الزواج والجنائز والأعياد والمناسبات الوطنية.
والمجتمع الياباني كغيره من المجتمعات، فالبعض منهم يعيش الهاجس من الحداثة، والبعض الآخر يقول إن الحداثة جاءت لتعمل على تدمير ثقافتنا، وآخرون يقولون إنه يمكن التكيف مع الحداثة وفي نفس الوقت نحافظ على ثقافتنا، والدعاة يتجاهلون هذا الاختلاف وهذا الجدل في المجتمع الياباني.
يبدو أن بعض الدعاة في طرحهم للتجربة اليابانية في خطبهم وكتاباتهم، قد ركزوا على الرموز الدينية في طقوس الزواج والاحتفالات وكيفية أكل الطعام وأمثال ذلك، وربطوها بالتقنية والصناعات اليابانية، وفي نفس الوقت أهملوا النظام المعيشي للمجتمع الذي يعتمد على النظم الغربية وخاصة في المجال الاقتصادي.
وبالطبع فإن الهدف من الاستشهاد بالتجربة اليابانية ليس الاستفادة منها في التطبيق العملي، ولكن مجرّد الرد على العلمانية، وهم في الحقيقة يسخرون من هذه التجربة، فهم يتناولون هذا الموضوع من باب التفضيل، فكأن لسان حالهم يقول "انظروا إلى الوثنيين كيف استطاعوا أن يحافظوا على دينهم وثقافتهم، ونحن أصحاب الحق والحقيقة والفضل نريد الانسلاخ من ديننا وثقافتنا وهويتنا بسبب المخططات التغريبية التي تريد هدم الإسلام"!، وفي هذا الصدد يقول أحد الدعاة ما نصه: "إذا كانت اليابان قد اعتزت بتراثها الوثني وثقافتها.. أفلا يليق بأصحاب الدين الصحيح، خاتم الأديان، أن يعتزوا بما فضلهم الله به على العالم؟؟ وألم يأن للمسلمين أن يتخلصوا من (الأكذوبة الكبرى) التي طيرها (بنو علمان) في كل مكان من ديارهم؟.
والإسلام في الحقيقة لا يتعارض ولا يتقاطع مع الحداثة، وينطلق من مواقع عقلانية ولا يتقاطع مع تبني مناهج عقلانية جديدة تنسجم مع الفكر الحداثي، وفي التاريخ كان المسلمون يعيشون تبعاً للظروف الطبيعية في المجتمع، ويضعون القواعد والقوانين التي تتناسب مع هذه الظروف، وعلى هذا الأساس تشكلت المفاهيم على أساس احتياجات الناس في ذاك الوقت ودخلت فيها التعاليم الدينية، التي أصبحت مع مرور الوقت أحكاما دينية مقدسة ومسلمة لا يمكن المساس بها، ولا يمكن تغييرها.
واليوم تعيش المجتمعات حركة تغييرية ترتبط بشكل وثيق بنمو وتقدم العلوم الحديثة والتقنية، والأعراف والتقاليد المتوارثة قد لا تتناسب مع هذا التغيير وهذا التطور الحديث، ويكون ارتباط الحداثة بالتراث أمرا صعبا والحياة معها عسيرة للغاية، لذا فإنها تتحول إلى مجرّد رموز يتم احترامها وتبجيلها في طقوس احتفالية.
والمجتمع الياباني ساير التغيير والتطور وانفتح عليه، ولم يقاومه، وعاش في إطار الحداثة، وبدل كثيراً من مفاهيمه وأفكاره.. فهل نستطيع السير على منهجه ونستفيد من تجربته؟ .. أم سنقول "الغزو الفكري الياباني القادم من بني علمان الذين خسروا دينهم ودنياهم"!.