ما ظننت أنه سيأتي يوم تتأرشف فيه أهازيجنا ورقصاتنا الشعبية، التي كانت الجزء الأهم، وذروة سنام الاحتفاء بمناسباتنا، أيا كانت: زواجا أو هودا أو عيدا، ولا تعود سوى شريط نسترجعه ونحن نردد: الله يسقي.

كان بزوغ فجر زواج في القرية، يعني موعدا يجمعنا بالانتشاء والشعور بالفرحة، ونحن نترقب توافد الضيوف الذي يبدأ منذ ساعات الصباح الأولى، وكل وفد منهم يأتي وهو يغني بلون يخص مكانه الذي ينتمي إليه، فإن كان من السراة فهو زامل، وإن كان من تهامة فهي دمة.

كنا نحن البنات نجتمع في البيت الأقرب للمرحب، ونتوزع على منافذه السرية، التي يمكننا منها مشاهدة الرجال والاستمتاع بتوافدهم، بحيث لا يلحظون وجودنا، كان ذلك بعد أن ننهي الوجبة التي نعدها للضيوف، التي تقسم في الحضن سواء كانت فطورا أو "قيول"، أو كما تسمى في شرق منطقة عسير "وصل"، فكنا نكافئ أنفسنا بمشاركة الرجال مراسمهم، منذ أن يقبل الضيف من أسفل القرية وحتى آخر ضيف يغادر القرية.

كانت منتهى المتعة أن نشعر أنه لا يمر يوم العرس إلا وقد طرق الفرح كل أبواب القرية، وانبثق من بين "رقف بيوتها ومداميكها"، كانت الفرحة تنتزع رغم بساطة العيش، ورغم الإعياء والتعب الذي يلحقنا طيلة النهار من العمل، إلا أننا نترقب الليل بفارغ الصبر، بل يزداد النشاط بمجرد أن نسمع قول: "ابن عشقة"، وكم هي كثيرة أقاويل ابن عشقة، المملوءة بالتضادات والجماليات والروائع، التي كانت لم تترك قرية عسيرية، سواء في السراة أو تهامة إلا ومرت عليها، وتركت أثرا في نفوس العشاق، وأبقت في نفوسنا معاني جميلة نرددها كل ذات ذكرى تعتصر أفئدتنا.

كنا نعيش مع ابن عشقة "وطروقه" ليالي، تبعث فينا الحياة وتجدد قلوبنا للحب وللتعاطي مع تبعاته، سواء كانت سلبا أو إيجابا.

تلكمو هي حياتنا قبل أن تكبلنا الرسميات المسطرة التي أخذت منا أوقاتا ليست باليسيرة، كان علينا أن نسخرها للتلذذ بالفرح، والاقتراب من مكامن الجمال الباقية في أنفسنا وفي جزيئات حياتنا، لا أن نقف على فوهة بركان يودي بقيمنا وموروثنا العسيري الأصيل.

فيا أسفاه على هذه الأفراح التي تقام وكأننا ندخل إلى سراديب عزاء نلتم لبضع ساعات، وكل منا منصرف إلى عالمه، نلتهم وليمة صاحب العرس، ثم نعود ونحن كما دخلنا لا نحمل من مشاعر الفرح سوى كلمة أو جملة باهتة نرددها مجاملة.

فلم يعد هناك صفوف خطوة ولا "ابن عشقة يقول".