في فترة غيابي عن الكتابة، توقفت عن إدماني الشديد بتدوين الوقائع والأحداث ولكنني في المقابل عدت لقراءة وتقليب أوراق القاموس الذي هجرته في مكتبتي منذ أكثر من عشرين سنة. في فترة غيابي عن الكتابة لم يعد أبداً مهماً لدي أن أتابع أخبار سعر البطاطا في محايل عسير ولا أيضاً ردة فعل البيت الأبيض على الانتخابات المصرية. شعرت في فترة غيابي عن الكتاب أن لدي فرصة جوهرية هائلة لإعادة قراءة قاموسي اللغوي لأن الكثير من مفرداتي الكتابية السابقة تحتاج إلى غربلة وتحديث وإلى إحلال وإبدال، لأن تواتر هذه المفردات وتكرارها مع الزمن قد يكون لهما آثاره الجانبية وحساسيته الزائدة. في فترة غيابي الكتابية هربت سائحاً للولايات المتحدة وكان القاموس هو الكتاب الوحيد في حقيبتي مع السراويل والجوارب.. وطبعاً في مكان بعيد عن ركن الأحذية.

ماذا اكتشفت إذاً؟ الذي اكتشفته مثلاً أن قاموس لساني العربي هو من يأخذني إلى حرج الحساسية حين يكون الكاتب في ورطة خيارات التخفيف عندما يطرح القضية. خذ بالمثال أن في القاموس العربي 270 اسماً للناقة وعائلتها المصون و32 اسماً لألوانها المختلفة ولكن في المقابل لا يوجد في العربية رديف لغوي واحد لمفردة "التنمية" ولو أنني سأمتثل لخيارات القاموس لكنت خبيراً دولياً في "فضل المغاتير على المجاهيم" لا مصارعاً مناضلا لتفكيك توأمة "الفساد والتنمية"، خذ مثلا أنني اكتشفت في مطعم نيويوركي أن لديهم 84 اسماً لمصطلح "الطريق" بينما لدينا مجرد رديف "الشارع" وهذا التباين الفج ما بين لغتين يشير إلى البون الشاسع ما بين ثقافتين في مفاهيم بناء "التنمية". وكي لا يظن بعضكم أنني أفضل الإنجليزية على لغة "الضاد" سأقول لكم إن لدينا 13 مفردة لمادة "الرمل" بينما لديهم مجرد واحدة. وجدت في القاموس عشرات المترادفات لأسماء وصفات الفساد والمفسدين بينما هم اكتفوا بتوصيف واحد ثم ضبطوا له الوصف القانوني الوحيد كرادع.

نحن هنا خلقنا هيئة مستقلة لمكافحة الفساد ولازالت بعد هذه الأعوام، مثلي، تقلب القامومس لحصر التوصيف والمسميات وفرز ردائف المفردة، لازالت في مرحلة إعراب اللغة قبل الدخول إلى مرحلة توصيف القانون.

والخلاصة نعم... غبت.. واختفيت وتواريت وحملت في غيابي قاموس اللغة كي أتحول وأتبدل، اكتشفت أنني لا أستطيع هذا لا لعلة في "علي" ولكن لعيب في القاموس. هو لا يعطيني البدائل المخففة عندما أكون ككاتب في "زنقة" مع الكتلة الحرجة.