تزهر في الريح أقدامهم، ويمتد ضوء الأجساد ليشعل أوراق المساء المطفأ، ويستثير شجر الفجر الباهر وسعفات الغيم الممطر، تنحني رؤوسهم المضيئة كأصابع السدر، وترتفع كقمر معلق في عنق سحابة، تستحيل الساحة إلى ومضة أثيرة تفيض بالغبطة والمسرات، داخل فضاءات باذخة الدلالة، تبصر الراقصين على اختلاف مشاربهم وأعمارهم وكأنهم يركضون على كفوف العاصفة، ويقفزون كبواسق البروق حين تنثني سيقانهم مثل خيوط الحرير وتتهادى ظهورهم كعروق الطلح، تستفيق حولهم شرفات المنازل وأعناب الحقول وحكايا الأسلاف وعطر الأزاهير وغلس العشايا، يضربون بأقدامهم وجه الأرض كالأوتاد في عشق أزلي، وتوقيع محموم ودفق عاطفي مدهش، بل يخيل لك أن الشاعر "محمد الفيتوري" ينشد بينهم:

"في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق، حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق، وزحمت براياتي وطبولي الآفاق، عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق، مملوكك لكني سلطان العشاق"

هذا هو حال أغلب مشاهد رقص "الرجال" في بلادنا، شجاعة وقوة وكبرياء وفروسية، حين تنتظم الصفوف في سرادق بطولي أخاذ وموروث متصالح مع الأرض، وإحساس عفوي صادق واتساق سحري متدفق، إن استرجاع أغلب تلك الرقصات وفهم دلالاتها وتفاصيل منظوماتها، واستقصاء موحياتها وتلميحاتها تدل على أنها رقصات "حماسية"، متداخلة ومتفاعلة ومتعايشة مع واقع الحال، في حيويته ونسيجه ومنطقه الصعب، وأعبائه ونزعاته واشتباكه مع عوالمه الغامضة، ومكابداته القاسية، فهو يقفز كالصقر، ويندفع كالسيل الهادر كما يقول الشاعر فواز عيد: "صفق الراقص فاصطفت على الجنبين جدران ونخل ويدان، واستدار الليل "خوصا" ووجوها تتلوى دان.. دان، كان شيخا خلفه سبعون عاما وصحارى وعلى الخصر نطاق وعلى الساح تلوب القدمان، تخفق الراحة كالنسر على الأخرى وتعدو الساق خلف الساق يلتف ويستعطي أكف المنشدين"، ولكن الجارح للذائقة والصادم للعرف، هو هذا الاستشراء المذهل والمشوه والمربك لما استقر في الذاكرة الجمعية، بتسويق هذه الطفرات الكاريكاتيرية والابتذال الرخيص، في بعض القنوات الخليجية "للرقص"، وطمر معناه ومقوماته الجمالية واستنبات مستجدات بائسة، حين ترى رجلا لا يتردد في هز جسده كالملدوغ، و"دق رقبته" بصورة مخجلة ومنتقصة وفاضحة، دون حياء أو شعور بالدونية والخيبة والمبالاة، بل إن البعض لم يحترم شيخوخته ووقارها حين أقبل يجر ساقه الرخوة كالسلحفاة، ويهز أكتافه كالخشب المخلع، ليصول ويجول في ساحة الطرب بمسبحته، فلا تملك إلا أن تشيح بوجهك حياء وعفة، وتسأل نفسك من أيقظ هذا الكائن من نومه، وأقنعه بالمشاركة في هذا "الكرنفال"، وأوهمه بالجاذبية والحضور الفاتن؟! بدلا من أن يدعو له بحسن الخاتمة، ويتركه يذهب ليأكل من خشاش الأرض في الأزقة المهجورة ودروب الحياة.