أسئلة وأسئلة، تثار هنا وهناك. مقالات هنا وتقارير هناك! أمور في منتهى الأهمية وفي منتهى الأسى والحزن أيضا. "المرضى النفسيون يتسولون في شوارع المملكة"! شيء عجيب هذا الأمر في بلاد الحرمين وفي وطن غني وثري وله مكانته بين بلدان العالم أجمع.
تصدرت الصحف الرسمية وغير الرسمية عناوين مضنية ومحزنة عن تناثر المرضى النفسيين هائمين على وجوههم في شوارع الرياض ومكة والطائف وغير ذلك من مدن المملكة. فتقول صحيفة الرياض في أحد أعدادها: "تزايد في الفترة الأخيرة وجود العديد من المرضى النفسيين في بعض الشوارع والأماكن العامة، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي أدت لوجودهم في هذه الأماكن دون رعاية بشكل يجعلهم عُرضةً للعديد من المخاطر، كما أنَّه من الممكن أن يكونوا مصدراً للخطر".
ويقول في هذا الشأن رئيس الجمعية العالمية لمكافحة الإدمان الدكتور أحمد أبو العزايم: كنت في العمرة وهالني ما رأيت من تسول المرضى النفسيين وانتشارهم ولم أتمالك نفسي فذهبت من فوري إلى مدير مستشفى الصحة النفسية وتساءلت لماذا لا تقيمون لهم دورا للإيواء"!.
تساؤل مشروع ويجب أن يحسم في حينه، ولكن نحن نتساءل أيضا كيف تقام دور للإيواء والمستشفيات في بادئ الأمر لا تقبلهم وإن قبلتهم سربتهم؟! أمر مؤسف أن يصرح مدير أحد المستشفيات بقوله إن المسؤولية تكمن في أوليائهم لأنهم لا يذهبون بهم إلى المستشفى! هذا القول يجانبه كثير من الصواب لأنني عايشت مأساة أم أحتفظ باسمها وبرقم هاتفها حين ذهبت به إلى المستشفى فرفضوا استلامه بحجة أن ليست لديهم أسرَّة كافية، وحين سلمته الشرطة للمستشفى قبلوه ثم أطلقوه إلى الشارع بزعم توقيعه ورقة على مسؤوليته الخاصة! وكان مصيره الموت في الشارع بأزمة قلبية، حسب ما زعمه تقرير الوفاة.
هل هانت علينا أرواح أبنائنا فنقذف بهم إلى عرض الشارع لا مأوى ولا علاج ولا رعاية. من المسؤول عن هذا الملف؟ فوزارة الصحة لا تعطيه الاهتمام الكافي. وبرغم تزايد عدد السكان في مدننا الكبيرة مثل الرياض أو مكة أو جدة لا يوجد إلا مستشفى واحد لهم ولا توجد أسرة، على حد قولهم، ثم إن تسريبهم إلى الشارع من أخطر ما يمكن باعتباره مريضا نفسيا فلا يصدقه أحد!
المريض النفسي هو محط أنظار العالم المتقدم في عصرنا هذا، فماذا ينقص وطننا الغالي في أن ينشئ لهم ما يعوضهم حياتهم وعائلاتهم وذويهم بما يليق بهذا الوطن المعطاء في الداخل والخارج، ومسألة إهمال المرضى النفسيين والقذف بهم على قارعة الطريق أمر يدعو للتساؤل وللمحاسبة أيضاً مع كثرة الحالات التي لم تعد خفيَّة على أحد!. فإذا كان لمعالي وزير الصحة مسؤولية وذات أولوية فهي مستشفيات المرضى النفسيين وإقامة دور لرعايتهم وعلاجهم، فليس كل مريض نفسي شخصا ميؤوسا منه، بل هناك مرضى نفسيون يتم علاجهم ويعودون إلى أعمالهم على أتم وجه وهناك مرضى يديرون أعمالهم ولا يعرف أحد ما بهم!
إن المرض النفسي مرض كأي مرض يصاب به المرء ويعالج ويشفى إذا ما أراد الله، فالصحة النفسية هي صحة جهاز كأي جهاز من أجهزة الجسم يمرض ويشفى، ثم إن الفرد في الدول الأوروبية والأميركية يذهب إلى الطبيب النفسي كل شهر مرة واحدة ليطمئن على صحته النفسية أو ليخفف من أعباء القلق الذي يعتريه أو الاكتئاب، أما نحن فنوصم من يذهب إلى المستشفى النفسي بالجنون والخبل. ثقافة متدنية وثقافة صحية لا ترقى إلى إنسان القرن الواحد والعشرين، ولكن ذلك كله يرجع إلى تدني مستوى المستشفيات الذي تعالج هذه الأمراض وإلى تدني الوعي العام بهذا المرض وبجهازه، وإلى نظرتنا نحن إلى هذه المستشفيات بأنه لا يرتادها إلا المتخلفون عقليا أو المدمنون أو العصابيون أو الذهانيون وما إلى ذلك مما يجعل الفرد لا يرتاد هذه المستشفيات، وبالتالي تكون هذه الدور مهملة ومتقاعسة عن خدمة روادها.
تقول فايزة ناصر في تحقيق لها في صحيفة المدينة :"أكَّد عدد من المختصين على أنَّ المسؤولية في هذا الجانب تقع على عاتق وزارتيّ "الصحة" و"الشؤون الاجتماعية"، موضحة أنَّ هاتين الوزارتين قصَّرتا في واجبهما تجاه هذه الفئة التي تحتاج إلى الرعاية الصحية والاحتواء وتقديم العون والمساعدة، في ظل عجز بعض الأسر عن تقديم هذا الدور لأبنائها المصابين بأمراض نفسية أو عقلية وراثية، أو نتيجة الإدمان على استعمال المخدرات، خاصةً مستشفيات الأمل والصحة"!
وفي ضوء مقتضيات - هذا العصر من تزايد في عدد السكان ومن ازدياد الضغوط الحياتية ومن تلوث بيئي يطال كل شيء - يتحتم على المسؤولين سواء في وزارة الصحة أو وزارة الشؤون الاجتماعية أو الدولة ذاتها النظر بجدية فاعلة لهذا الأمر ومعاملة أبنائها بما يليق بعراقة هذا الوطن الحبيب بين دول العالم.
تقول فايزة في تحقيقها الرائع: "وشدد الدكتور الطويرقي على أهمية التعامل مع مشكلة المرضى النفسيين بطريقه سليمة عبر خطط علمية مُتقنة ومدروسة بدقة وفق إحصاءات صحيحة، مضيفاً أنَّ هناك خللا في هذا الجانب حالياً نتيجة عدم التصريح بالإحصاءات الصحيحة، موضحاً أنَّه متى ما تم الإعلان عن إحصاءات صحيحة، فإنَّه يمكن عمل دراسات دقيقة مستندة إلى حقائق تعمل على حل المشكلة من جذورها، داعياً إلى تغيير بعض المفاهيم الاجتماعية حول تقبّل المريض النفسي وكيفية التعامل معه وسط أفراد المجتمع، مؤكداً على أنَّ المريض النفسي يشعر بالخوف في الغالب ولا يمتاز بالعدوانية إلاَّ في حالات نادرة أو حينما يكون من مدمني المخدرات".
ملف خطير ومؤلم نأمل أن يهتم به المسؤلون قبل أن تظهر الصورة البائسة على صفحات صحف عالمية فتسيء لوطننا الغالي؛ ويجب أن تكون هناك محاسبة تامة لكل من أطلق مريضا نفسيا إلى قارعة الطريق بحجة أنه وقع على ورقة وهمية، وعلى مسؤولية المريض غير المسؤول عن نفسه!!؟