قبيل تنصيبه رسميا، انطلقت ماكينات التحليلات، واشتعلت بورصة التكهنات حول المنهج السياسي للرئيس المصري الجديد عبدالفتاح السيسي، وراح "كلٌ يغني على ليلاه"، فالناصريون يرونه ناصر زمانه، والمتيمون بالسادات يربطون بين الدهاء السياسي لكليهما، وأنصار مبارك يحلمون بعودته لعصره، فضلا عن خصومه الذين يرسمونه بهيئة دكتاتور حملته دبابة لقصر الرئاسة.
وكعهدي بشخصيته، يحتفظ بابتسامته الوديعة، وخلفها يسكن رجل تربى بمدرستي الانضباط والمخابرات، وتجلت بعدة مواقف لعل أخطرها عملية "الخداع الاستراتيجي" الكبرى، التي جعلت الملايين حينها يشكون في ولائه لجماعة الإخوان، لكنه استدعى خبراته للاصطفاف خلف إرادة شعبية كان قد فاض بها الكيل من ممارسات الإخوان، وكانت ثورة 30 يونيو التي غيرت تاريخ مصر، وأتوقع أن تكون مصدر إلهام لشتى بلاد المنطقة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع جماعة الإخوان وتنظيمها الدولي، الذي يتمدد على خارطة العالم الأخطبوط، مدعوما بدول إقليمية وقوى عظمى يجد كل منها في دعمها مآربه الخاصة.
والحقيقة أن السيسي لن يكون امتدادا ولا استنساخا لأسلافه، فهو "ابن تجربته" وزمنه والظروف المحلية والإقليمية والدولية التي تحيطه، ويتأهب لتدشين "الجمهورية الثانية"، وعلمتنا حكمة التاريخ أن مؤسسي الدول يجدون أنفسهم مطالبين بالمواءمة بين اللين والشدة بموقف وآخر، وهو ما أدركه العاهل السعودي بفراسته، ورؤية "رجل الدولة" الثاقبة.
وعد "خادم الحرمين" أن معركة مصر لا تنحصر بالتنظيم الدولي للإخوان، فهو ليس سوى أداة لمخطط دولي ـ إقليمي اشتعل بعدة دول، لكنه اتخذ مصر منصته الرئيسة بوصفها دولة محورية، وبسقوطها ستتغير جغرافيا وتاريخ المنطقة، لهذا حسم أمره مبكرا بالانحياز للتجربة المصرية، فشهدت الكواليس مواقفه الصارمة ضد قوى دولية وإقليمية إدراكا منه بأن مصر ليست "شركة متعثرة" ينتشلها ضخ سيولة لتنتعش، لكنها دولة مركزية تؤثر وتتأثر بواقعها الإقليمي، فاستمر بدعمها سياسيا وصولا إلى مشروع "مارشال العرب"، متمثلا في دعوته لعقد "مؤتمر أشقاء وأصدقاء مصر" لتواجه أزمتها الاقتصادية.
وبتوقيت محسوب، تزامنت دعوة خادم الحرمين مع إعلان فوز السيسي رسميا بالانتخابات الرئاسية، وكانت من أبرز نتائج الدعم السياسي السعودي، صدور بيان البيت الأبيض بتطلعه إلى العمل مع الرئيس المصري المنتخب، كما لعبت المملكة دورا حاسما للحيلولة دون اعتبار واشنطن عزل مرسي انقلابا، فذلك كان سيرغمها بموجب القانون الأميركي على وقف تقديم مساعدات لمصر بمليارات الدولارات.
وتبنت الموقف السعودي دول الإمارات والكويت والبحرين لتتبلور منظومة (1+4) كمحور عربي للتوازن مع أربع قوى إقليمية هي: إسرائيل وإيران وتركيا، فضلا عن "الأداة السياسية" متمثلة بالتنظيم الدولي للإخوان الذي سعى للتمدد بالمنطقة، وانتصاره أو هزيمته بمصر سيكون مصدر إلهام لدول الشرق الأوسط.
ولست أبالغ حين أؤكد أن هزيمة "المشروع الإخواني" مصريا، تجاوزت حدودها لدول الجوار، والبداية بليبيا التي تُشكل أحد أركان الأمن القومي المصري، ولا أذيع سرا حينما أؤكد الاستجابة لطلب قائد الجيش الليبي السابق "خليفة حفتر" بمساعدته بالعملية العسكرية التي أطلق عليها "كرامة ليبيا" ضد المجموعات الإرهابية هناك.
وتحدثت باستفاضة مع مصادر سيادية مصرية، أكدت الانحياز الكامل للقوى المناهضة للإخوان كافة بدول الجوار، باعتبارها مرتبطة بالأمن القومي المصري، وانطلاقا من قناعة مفادها أن ملاحقة المشروع الإخواني معركة مفتوحة على الاحتمالات كافة، وبالتالي لن تقف القاهرة متفرجة على مخططات تنطلق عبر حدودها، بل ذهبت لأبعد من ذلك، بتأكيدها أن التجربة المصرية صارت مُلهمة لخيار "الدولة الوطنية"، في مواجهة "الأممية الإخوانية" ورعاتها إقليميا ودوليا.
ويرى غالبية المصريين أيضا، أن الجيش لديه مؤهلات لتحسين الاقتصاد المتعثر، فضلا عن مبادرة "مارشال العرب" التي دعا إليها العاهل السعودي، التي ستكفل نجاح السيسي لتجاوُز العقبات الكأداء لمواجهة التنمية، ومع أن مصر تستند منذ أربعة عقود لنظرية "الليبرالية الجديدة"، وهو ما سيفرض إجراء إصلاحات لترشيد دعم الوقود وإصلاح خلل الميزانية ومكافحة التضخم، وذلك سيفرض تدابير تقشفية، لكن الدعم العربي سيعزز مصر بالتصدي لكل هذا، فضلا عن إسرائيل ـ التي تتمتع بنفوذ بارز بنظام العولمة ـ وتسعى لإجهاض إقامة مشروعات إنتاجية مصرية؛ لأنها تراها تُشكل خطرا على أمنها القومي.