نيويورك.. المدينة التي لا تنام، فهي لا تعرف الهدوء أو السكينة، مشتعلة لا تخمد أصواتها، ليلها مثل نهارها، المدينة التي جذبت إليها الجميع، إذ جمعت بين المال والجمال، والعلوم والفنون، ذلك جعلها بلد الطامحين، أرض ا?حلام، التي يتربع تمثال الحرية على مدخلها، دعوة منها للعالم بأسره كمدينة للحرية، كم هو جميل أن يكون للحرية رمز ممثل بامرأة تحررت من قيود الاستبداد التي ألقيت عند إحدى قدميها. تمسك في يدها اليمنى مشعلا يرمز إلى الحرية، بينما تحمل في يدها اليسرى كتابا نقش عليه بالأحرف الرومانية "4 يوليو 1776"، تاريخ استقلال أميركا، وعلى رأسها تاج مكون من 7 أسنة، تمثل أشعة ترمز إلى البحار السبعة أو القارات السبع الموجودة في العالم.

يرتكز التمثال على قاعدة أسمنتية ـ جرانيتية، تتكون من ألواح نحاسية مثبتة إلى الهيكل الحديدي، ويحيط بالتمثال حائط ذو شكل نجمي "نجمة ذات 10 رؤوس"، وقد تم بناؤه في عام 1812 كجزء من حصن، استخدم للدفاع عن مدينة نيويورك أثناء الحرب الأهلية الأميركية.

أهدى الفرنسيون التمثال إلى الولايات المتحدة الأميركية في مناسبة احتفالها بالذكرى المئوية للاستقلال. كل ما تم ذكره عن مدينة نيويورك كان إلى وقت قريب ـ وأقول هنا كان ـ ?ن منذ ما يقارب أسبوع كنت في مدينة نيويورك، وصادف افتتاح متحف ضحايا 11 سبتمبر، الذي يقع في مكان برجي مركز التجارة العالمي سابقا، إذ يسعى المتحف أن يصبح صرحا يمثل وحدة الشعب الأميركي وصموده، من خلال تقديم وقائع أحداث 11 سبتمبر، التي غيرت منحى التاريخ. كذلك على الظروف والأسباب اللتين قادتا إلى تلك الاعتداءات، وكيف غيرت وجه العالم.

رحب بعض أقارب ضحايا اعتداءات 11 سبتمبر بإقامة المتحف، غير أن البعض الآخر عدّ أن يكون هناك تذكرة دخول بـ24 دولارا أمرا غير لائق، ورأى البعض أن نقل رفات الضحايا ـ إلى أسفل المتحف ـ إهانة وتدنيس لذكرى آلاف ممن لم يتم التعرف عليهم.

كما تم إطلاق فيديو تحت شعار "خصص يوما من وقتك لتتذكر"!

حينها تمنيت أن يتم تغيير اسم المتحف إلى الذين توفوا في انفجار مبنى التجارة العالمي؛ كي يكون أدق من ضحايا 11 سبتمبر؛ ?ن ضحاياه كثر، وفي جميع أنحاء العالم، مثل الطلبة السعوديين أو المسلمين الذين لم يجدد لهم فيزهم فاضطروا إلى المغادرة وعدم إكمال تعليمهم، أو ا?برياء الذين كانوا ضحية الهجوم على أفغانستان بحجة القضاء على الإرهاب، أو سجناء جوانتانامو الذين لا ينطبق عليهم أي قانون من قوانين حقوق الإنسان إلى الحد الذي جعل منظمة العفو الدولية تقول، إن معتقل جوانتانامو الأميركي يمثل همجية هذا العصر.

لم أستطع خلال رحلتي إلى نيويورك أن أزور موقع ضحايا 11 سبتمبر، رفض عقلي وبصري زيارة المكان أو حتى الوقوف عليه، من وجهة نظري، أنه يرمز إلى العنف والكراهية، رمز يخلد الفكر المتطرف الذي عاد بإحياء الحرب الصليبية، أو سمها ما شئت، لكنها حرب اشتعلت باسم ا?ديان ولم تخمد إلى ا?ن.

فكيف لمدينة مثل نيويورك أن تجمع بين هذين النقيضين؟!