هناك أجزاء كبيرة من العالم تعاني من صعوبة تطبيق النظام والقانون فيها. وبدلاً من أن تتبع هذه المناطق ما يتطلبه التطور وتفرضه العقلانية، تنحدر أكثر فأكثر في أتون الفوضى ويصبح حكمها أكثر صعوبة كل يوم. المجتمع المدني في مناطق كثيرة من العالم لا يزال حكراً على نخبة قليلة نسبياً في العواصم العالمية، وهم الأشخاص الذين يشعر الصحفيون الغربيون بالارتياح لمصادقتهم وإجراء اللقاءات معهم، وبذلك تلعب أجهزة الإعلام دوراً هاماً في المبالغة في حجم ونفوذ مثل هذه الطبقة. يقول تقرير نشرته مؤسسة "ستراتفور" الأميركية للأبحاث إن الفوضى التي تسبب بها الربيع العربي لها جذور أخرى. ويلخص تقرير ستراتفور هذه الجذور بما يلي:
•نهاية الإمبريالية: قدمت الإمبريالية الكثير لمناطق كثيرة من أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية الأمن والأمان والنظام الإداري. قسَّم الأوربيون العالم إلى شبكة من الكيانات. قد لا يكون ذلك عادلاً، وقد لا يكون ذلك ممارسة حضارية، لكن الإمبريالية حققت تطبيق النظام. والإمبريالية، عماد الاستقرار للمجتمعات الإنسانية على مدى آلاف السنوات، لم تعد موجودة الآن.
•نهاية الرجال الأقوياء الذين ميزوا مرحلة ما بعد الاستعمار: لم ينته الاستعمار تماماً مع رحيل المستعمرين الأوروبيين. استمر الاستعمار على مدى عقود تحت ستار الحكام الدكتاتوريين الأقوياء، الذين ورثوا أنظمة دولة من المستعمرين. لأن هؤلاء الرجال الأقوياء كانوا غالباً ما يرون أنفسهم بأنهم مقاتلون من أجل الحرية ضد الغرب، صدقوا أنهم الآن يملكون المبرر الأخلاقي ليحكموا كما يشاؤون. الأوروبيون لم يكونوا ديموقراطيين في الشرق الأوسط، وكذلك لم يكن الحُكام الجدد للمنطقة العربية.
•انعدام المؤسسات: هذا هو العنصر الأساسي، الحكام الدكتاتوريون العرب الذين جاؤوا بعد فترة الاستعمار المباشر أسسوا نظاماً يعتمد على المخابرات: دول يعتمد نظامها على الشرطة السرية والقوى الأمنية الأخرى ذات الصلة. ولكن ما وراء ذلك كان التطور المؤسساتي والبيروقراطي ضعيفاً ولا يستجيب لاحتياجات المواطنين. هذه المؤسسات تملأ الفجوة بين الحاكم في قمة الهرم وبين العائلة الكبيرة والقبيلة في قاعدته. وهكذا، مع عدم وجود تطور مؤسساتي كاف، هناك فرصة إما لبقاء الدكتاتورية أو انتشار الفوضى. المجتمع المدني يحتل منطقة وسطاً بين هذين النقيضين، لكنها لا تستطيع أن تزدهر دون المؤسسات الضرورية.
•الهويات الضعيفة: بالإضافة إلى المؤسسات الضعيفة، مثل هذه الدول في مرحلة ما بعد الاستعمار لديها هويات ضعيفة. إذا كانت الدولة تعني فقط القمع، فإن سكانها سيكونون مجرد رعايا، ولن يكونوا مواطنين. رعايا الأنظمة الدكتاتورية لا يعرفون سوى الخوف، وليس الولاء. إذا كانت الدولة لا تستطيع تقديم غير الخوف، عند ذلك، عندما تتهاوى دعامات الدكتاتورية، فإن الهويات التي لا علاقة لها بالدولة تملأ الفراغ الناتج.
•المعارك الفقهية: يحتل الدين مكانة في الحياة اليومية في العالم الإسلامي لم يعرفها الغرب منذ ألف عام. ولذلك فإن الهويات غير الوطنية في القرن الـ21 في الشرق الأوسط تعني الهوية الإسلامية. ولأن هناك تنوعاً في الاعتقادات حتى ضمن الدين الإٍسلامي، فإن صعود الهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية يعني اشتعال الخلافات العقائدية، والتي يمكن أن تأخذ شكل صراع عسكري غير منتظم.
•تقنية المعلومات: أشكال متعددة من الاتصالات الإلكترونية تستطيع أن تمكِّن الجماعة ضد نظام مكروه، حيث يستطيع المحتجون الذين لا يعرفون بعضهم البعض شخصياً أن يجدوا بعضهم عبر"فيسبوك"، و"تويتر"، ووسائل أخرى من الإعلام الاجتماعي. ولكن مع أن التكنولوجيا تستطيع أن تساعد في الإطاحة بحكومات، إلا أنها لا تستطيع أن توفر بديلاً منظماً للسلطة البيروقراطية للحفاظ على الاستقرار السياسي بعد ذلك. بهذه الطريقة تشجع التكنولوجيا على الفوضى.
وحيث إننا نتحدث هنا عن عمليات طويلة الأمد وليس عن أحداث محددة، فإن الفوضى في شكل من الأشكال ستبقى معنا لفترة طويلة نسبياً، إلى أن يبرز تشكيل سياسي جديد يوفر النظام المطلوب. وهذه التشكيلات السياسية الجديدة ليست بالضرورة ديموقراطية.
عندما انهار الاتحاد السوفيتي، استطاعت مجتمعات في وسط وشرق أوروبا كانت تتمتع بطبقة متوسطة كبيرة وتقاليد بيروقراطية معقولة قبل الحرب العالمية الثانية أن تغيِّر نفسها إلى أنظمة ديموقراطية مستقرة نسبياً. لكن الشرق الأوسط ومعظم الدول الأفريقية تفتقر إلى مثل هذه التقاليد البورجوازية، ولذلك فإن سقوط الحكام الأقوياء ترك فراغاً. دول غرب أفريقيا التي انحدرت إلى الفوضى في أواخر تسعينيات القرن العشرين، مثل سيراليون وليبيريا وساحل العاج، لم تتعاف بعد بشكل تام حتى الآن.
مستقبل السياسة العالمية سوف يعتمد على أي مجتمعات تستطيع أن تطور مؤسسات متجاوبة لتحكم مناطق جغرافية واسعة وأي مجتمعات لا تستطيع ذلك. هذا هو السؤال الذي يقودنا إليه فصل الفوضى الذي نمر به حالياً.
مؤسسة ستراتفور
• من أهم مؤسسات الأبحاث المتخصصة في مجال الاستخبارات.
• يقدم باحثون متخصصون فيها دراسات عن التطورات الاقتصادية والسياسية والعسكرية العالمية.
• تأسست عام 1996 ومركزها في مدينة أوستن بولاية تكساس الأميركية.