يظل الإنسان تائهاً مشتتاً باحثاً، يسأل عن الله والله موجود في سؤاله، إننا لا نسأل: أين العنقاء لعلمنا أنها أسطورة لا وجود لها، ولو سأل سائل هذا السؤال لحوى سؤاله قناعة بأن العنقاء حقيقة بالنسبة إليه لكنها تحتاج إلى إثبات -ولله المثل الأعلى-، سبحانه موجود حتى في عقل وكيان أعتى المشككين فيه، ودليل وجوده هو تشكيكهم فيه وبحثهم الدائم عنه، وإلا فلا أحد ينشغل بالبحث عن شيء إن كان مقتنعاً فعلاً بعدم وجوده، بمعنى آخر: أين الله؟ سؤال يقود إلى أن السائل غير مقتنع بفكرة عدم وجود إله.
أين الله؟ إنه -سبحانه- في التشابه بين الذرة داخل الخلية وبين المجموعة الشمسية وتشابه الاثنين والمجرة، دائماً هنالك نواة تدور حولها أجسام، لا شيء من هؤلاء بلا نواة ولا نواة في هؤلاء بلا قدرة جذب تحافظ بها على دوران الأجسام حولها في أفلاك محددة، المجموعات الشمسية تدور في أفلاكها حول نواة المجرة، الكواكب تدور في أفلاكها حول الشموس، الإلكترونات تدور في أفلاكها حول نواة الذرة (وكلٌ في فُلكٍ يسبحون)، ولو كان كل هذا من عند غير الله لوُجِد فيه اختلاف كبير.
أين الله؟. إنه -سبحانه- في الشفرات التي يحتويها الحمض النووي، حروف محددة تتشكل إلى عدد لا نهائي من الشفرات لتُشكِل بدورها كل أشكال الحياة، تغيير بسيط (1%) في هذه الشفرة أنتج كائنين مختلفين، أحدهما فأر والآخر إنسان! الأمر أشبه بعمل الحاسوب الذي يقرأ لغة البرمجة الأساسية (الـ 0 والـ 1) ثم يحولها إلى كل هذه البرمجيات الحاسوبية المختلفة، إنها نفس الحروف مدونة في كل الخلايا بطرق مختلفة لتُنتِج هذا العدد اللانهائي من أشكال الحياة، عملية معقدة بديعة تقودنا إلى أن خلف هذه الشفرات ذاتاً واعية.
أين الله؟. يُنسب إلى الإمام علي -كرم الله وجهه- بيت جميل يقول فيه: أتحسب أنك جرم صغير = وفيك انطوى العالم الأكبر. إن الإنسان حين يتأمل في تكوين جسده سيجده كوناً مستقلاً فيه أسرار وعجائب تفوق ما نعرفه عن الكون الفسيح، إن الخلية في جسد الإنسان، على ضآلتها، شديدة التعقيد كأنها مدينة تعج بالبشر، لكل فرد دوره المُحدد، فيها "الخلية" التي هي نظام اتصال لنقل المعلومات ومصنع لإنتاج الطاقة، إنها أكثر تعقيداً من مدينة مزدحمة تعمل بمعزل عن معرفة الإنسان فضلاً عن إرادته، كل هذا في خلية واحدة وجسد الإنسان يتكون من مليارات الخلايا تتجمع كما تتجمع الكواكب لتشكل الكون الفسيح، هنا من غير المنطقي ألا يُقال: سبحان الله.
الجنين في الرحم بدء كنطفة، هذه النطفة تحمل كل صفات المخلوق الذي ستكون عليه غداً، فتنقسم إلى خليتين كلاهما يحتفظ بكل مزاياه ثم إلى أربع فثمان إلى أن ينتهي الأمر بكائن حي مكتمل النمو، المخ والقلب والرئتان والعينان وكل شيء بدأ من خلية. البذرة التي تدفن في الأرض لتغدو شجرة تمتد إلى السماء تحتفظ بكل صفات النبات في داخلها على صغر حجمها، هنالك ملفات مُخزنة في كل خلية تحتوي كامل المعلومات عن الكائن، وكأن الحياة تحتفظ بنسخٍ عن نفسها في كل جزء من أجزائها، حتماً هنالك بديع أبدع كل هذا، وأي رأي غير القول بوجود خالق حكيم قدير فيه إسفاف بمعجزة الوجود.
إن الله -سبحانه- ليس في الذرة أو الخلية أو الكواكب والمجرات، فكل هذه أجزاء تتجمع لتشكل لوحة الوجود المنضبط المحكم الدقيق بلا خلل، حتى ما يفسره الإنسان بأنه فوضى هو في الحقيقة منضبط غاية الانضباط، وله هدف وإن لم تُدركه العقول، الكويكبات التي ضربت الأرض في بداية نشوئها حملت الماء، ولو أن الإنسان عاصر هذه العملية لوصفها بأنها ضربات فوضوية لا هدف منها.
إن معجزة هذا الوجود ليست في ما يشذ عن القاعدة، ليست في أن تتحول النار إلى برد وسلام، أو في خروج ناقة من الصخور، أو في تحول العصا إلى حية تسعى. إن تلك المعجزات التي أتى بها الأنبياء -عليهم السلام- هي خرق للنظام، شيء يظهر على غير المألوف ليُؤمِن الإنسان الكفور، ولو تمعن الإنسان ولم يكابر لوجد المعجزة الحقة أمامه تحدث كل يوم وكل لحظة، إن المعجزة في كل هذا الانضباط، في الشمس التي لم تدرك القمر، في الليل الذي لم يسبق النهار، ملايين السنين ولم يحدث أي خلل في تعاقب الليل والنهار، هذه هي المعجزة.
لكن الإنسان قد ألف الحياة واعتادها، لهذا ما عاد يدهشه الوجود، فيبحث عن دليل على وجود الله متناسياً أن تناسق هذا الوجود أمامه أعظم دليل، إن الأمر لا يحتاج إلى طرح سؤال: أين الله؟ إنما يحتاج أن نقرأ أن نتأمل ونتدبر، فإن لم تر الله في كل هذا فإنه يراك ويحيط بك من كل اتجاه، حتى داخل عقل وكيان من يزعم أنه لا يؤمن بوجود إله.