هذه المقالات مشغولة بعلاقة الفعل النقدي بالأخلاق. بمعنى أنها تطرح أسئلة من نوع: هل يمكن أن نمارس العمل النقدي بأي شكل من أشكاله خارج الأخلاق أم أن منظومة أخلاقية أو قيما أخلاقية ما ضرورية لكل عمل نقدي؟ (سؤال الإمكان) بعد ذلك ننتقل لـ (سؤال الوجود) أي السؤال المشغول بطبيعة المنظومة الأخلاقية التي يمكن من داخلها ممارسة النقد دون أن تكون عائقا للنقد ذاته. هذه الأسئلة الأولية يفترض أن تفتح المجال للحوار مع وجهات نظر قلقة ومرتابة من "الرقابة" الأخلاقية على الفعل النقدي. إحدى الصور للعلاقة بين الأخلاق والنقد والتي تواجه رفضا حادا هي أن تكون منظومة أخلاقية ما حَكَما على الفعل النقدي. بمعنى أن تحدد تلك المنظومة معايير الخير والجميل والحق ويبقى دور الفعل النقدي هو تطبيق تلك المعايير على الأعمال المنقودة والحكم عليها من خلال تلك المنظومة. على سبيل المثال قد يربط الناقد عمله النقدي بتوجهاته الدينية مثلا وتصبح تلك التوجهات هي المعيار الذي يحكم على العمل الفكري أو الجمالي من خلاله. القلق الناتج عن العلاقة السابقة بين الأخلاق والعمل النقدي منطقي جدا ولكنه يدعونا لهذا السؤال:

هل يعني رفض (تلك) العلاقة رفض (كل) علاقة بين الأخلاق والنقد؟ أيضا، النموذج السابق يدعونا للتفريق الضروري بين نوعين من العلاقات التي تربط الأخلاق والنقد. العلاقة الأولى يمكن تسميتها بالعلاقة (المضمونية) والثانية يمكن تسميتها بالعلاقة (الإجرائية). العلاقة المضمونية تحدد فيها القيم الأخلاقية مضمون النقد. بمعنى أن تلك القيم هي من يحرّك اتجاه الفعل النقدي فالفكرة أ خاطئة لأنها تتعارض من القيم الأخلاقية لدى الناقد، والعمل الفلاني جميل لأنه يتوافق مع القيم ذاتها وهكذا. العلاقة الثانية، العلاقة الإجرائية، يتوقف تأثير القيم الأخلاقية فيها عند تحديد العلاقة بين الناقد والمنقود والقارئ ولا تمتدّ لتحديد مضمون النقد. بمعنى أنها قيم أخلاقية محدودة توفر الشرط الضروري لإقامة علاقة (عادلة) بين الناقد والمنقود والعمل النقدي والقارئ.

العلاقة المضمونية تتميز بكونها علاقة شمولية بمعنى أنها تحيط بالعمل النقدي وتستغرقه. في الأخير فإن مضمون العمل النقدي أي العلاقة بين الناقد والعمل المنقود محسومة سلفا بفعل القيم الأخلاقية التي يتبناها الشخص. هذا يعني أن العمل النقدي داخل هذه العلاقة هو بالضرورة: عمل تطبيقي وينتج أحكاما قيمة. العمل النقدي هنا عمل تطبيقي لأن المعايير التي تحرك النقد محددة سلفا ومهمة الناقد هو أن يحدد مدى انطباق الحكم على موضوعه. بمعنى أن المقدمة الكبرى في المحاججة النقدية جاهزة سلفا ويبقى عمل الناقد في تحديد المقدمة الصغرى لينتج الحكم بعد ذلك. بمعنى أن الفعل النقدي المنطلق من العلاقة النقدية المضمونية يتحرك في شيء قريب من هذه الصورة: المقدمة الكبرى (حكم جمالي): الجميل هو ما توفرت فيه الخصائص التالية: أ، ب، ج. المقدمة الصغرى: العمل الفلاني لم تتوفر فيه الخصائص أ، ب، ج. إذن (النتيجة) العمل الفلاني غير جميل. عمل الناقد هنا هو محصور في إنجاز المقدمة الصغرى وهي بطبيعتها مقدمة وجودية إمبيريقية لا تحتاج إلا لمهارات تطبيقية. المقدمة الأولى التي تحتاج لإمكانات إبداعية تبقى خارج صلاحيات الناقد في هذه العلاقة. ولذا لا نستغرب حين تعتبر هذه العلاقة قاتلة للإبداع باعتبار أنها تحصر عمل الناقد في الدور التطبيقي التقني. هذه العلاقة أيضا محصورة في إطلاق أحكام القيمة فهي الغاية والهدف. أحكام الوصف لا تشبع مثل هذا النوع من أنواع العلاقات. لذا نحن هنا دائما في علاقة حادة: مع أو ضد.

في المقابل العلاقة الإجرائية لا تتعلق بمضمون النقد وبالتالي فهي لا تحدد لا المقدمة الكبرى ولا الصغرى في العمل النقدي. مهمة العلاقة هذه أن تنشئ العلاقة النقدية بين الناقد والعمل المنقود. العلاقة بين الناقد وموضوع نقده قد تأخذ أشكالا متعددة منها العلاقة النقدية، قد تكون العلاقة علاقة إعجاب ومحبة، قد تكون العلاقة علاقة خصومة وقطيعة. العلاقة الإجرائية تسعى لتحقيق اشتراطات معينة ضرورية يمكن أن تنشأ داخلها العلاقة النقدية. يمكن أن نعتبر النص التالي نموذجا لما أعنيه بالعلاقة الإجرائية بين الأخلاق والنقد: يقول الفيلسوف الأميركي جون رولز عن تدريسه لطلاب الفلسفة "أحد الأمور التي حرصت عليها هو أن أعرض أفكار الكتّاب الذين ندرسهم في أقوى صورها. في هذا أنا مؤمن بمقولة ستيوارت مل (لا يعتبر المذهب الفكري منقودا إلا إذا نُقد في أفضل صوره)، لا أحاول (يكمل رولز) أن أعرض ما كان يجب أن يقولوا بل ما قالوا فعلا داعما ذلك بأكثر التأويلات معقولية لنصوصهم. النص يجب أن يكون مدروسا بعناية ويجب أن يتم احترامه. إذا غادرت النص فيجب أن أعلن عن هذه المغادرة مباشرة. بهذه الطريقة تبدو نظرة الكاتب أقوى وأكثر إقناعا وبالتالي أكثر استحقاقا للدراسة. عدد من المبادئ تقودني في كل هذا. على سبيل المثال لدي فرضية أن الكتاب الذين أدرسهم أكثر ذكاء مني. إذا لم يكونوا كذلك فلماذا أضيع وقتي في دراستهم. إذا وجدت خللا في مجادلاتهم افترضت أنهم قد لاحظوا ذلك أيضا وقاموا بمعالجته في مكان آخر. لذا تلحّ عليّ مهمة البحث في كتاباتهم أكثر...". هذه المعايير التي حددها رولز لنفسه مهمتها تأسيس ما يراه العلاقة العادلة والنافعة مع العمل المنقود ولا يوجد فيها ما يحدد مسبقا الموقف من الأعمال التي يتناولها بالدراسة والنقد.

هذا التفريق بين العلاقة المضمونية والعلاقة الإجرائية بين الأخلاق والنقد مهم جدا للتفكير في الأسئلة التي افتتحت بها هذا المقال. في المقال التالي سأعود للسؤال الوجودي لأحاول أن أجادل أن النقد لا يمكن أن يتحقق خارج كل التزام أخلاقي وأن عزل النقد عن الأخلاق يعني القضاء على إمكان النقد.