حتى ظهر اليوم السبت (أمس) تبدي المؤشرات أن القس المعمداني الأمريكي المتطرف – تيري جونز – في طريقه للعدول عن قراره بحرق نسخ من المصحف الشريف. وكمسلم، تبدو القصة الكريهة المحبطة لهذا المتطرف قصة ثانوية لا تستحق أن تعطى لقس هامشي هذه الفرصة الهائلة من الانتشار لأن آية واحدة من القرآن الكريم، وحدها، كافية، لطمأنة المسلمين في كل الأماكن والأزمنة: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). صحيح أن قصة إحراق المصحف الشريف عمداً لها دلالات رمزية ولكن: منذ متى عاش هذا الدين العظيم بلا أعداء كي نظن أن هذا القس المعمداني مختلف عن كل من سبقه أو سيتبعه. ولخمس ساعات متصلة صباح اليوم حاولت البحث الإلكتروني عما يتيسر من الأدبيات التحليلية والإخبارية عشية الحادي عشر من سبتمبر لأضمها إلى الملف الدوري الاعتيادي وبالتحديد في متلازمتي (الإسلام/ العرب) والتي عادة ما تنشط هذا المساء في تقارير المراسلين وعناوين الأخبار وبالذات في صحف العالم الكبرى وقنوات الغرب الإخبارية الرئيسة فماذا اكتشفت؟ اكتشفت أن التطرف والمتطرف يهديان لأعدائهما التلقائيين أعظم خدمة ترفع عن المستهدف (بفتح الدال) كوامن الضغط الاجتماعي والإعلامي الذي عادة ما يثور ويستعر في الحوادث المؤلمة الكبرى أو في ذكرى مرورها كما هو الحال في مصطلح الحادي عشر من سبتمبر. بفضل غباء تيري جونز وبإهداء من عقله المتطرف أصبحت قضية حرق القرآن الكريم هي الخبر الرئيس المسيطر على الإعلام العولمي والغربي بالتحديد في الأسبوع الحاسم الذي يسبق عادة يوم الحادي عشر من سبتمبر. تحول الإسلام المعتدل من موقع الدفاع والتبرير إلى موقع الهجوم والاستعطاف، وبدلاً من ذهاب مئات الكاميرات الإعلامية إلى موقع – جراوند زيرو – في مانهاتن، توجهت هذه الكاميرات إلى مكان ثانوي مغمور وبعيد بألف ميل إلى الجنوب، اسمه- غينسفيل – في ولاية فلوريدا، حيث الكنيسة المعمدانية صاحبة القصة المتطرفة بفضل غباء تيري جونز وبإهداء من عقله المتطرف أصبحت فلاشات الكاميرا وأضواء الإعلام الجوهرية تنقل لافتة صغيرة في الجنوب الأمريكي كتب عليها (هنا مكان إحراق القرآن) بدلاً من تهافتها الدوري الاعتيادي المكثف على حطام البرجين الشهيرين في قلب مدينة نيويورك حيث كان – جراوند زيرو – نقطة الصفر السنوية التي تبدأ منها أدبيات الاتهام بالإرهاب للإسلام وأهله. بفضل تيري جونز وبإهداء من عقله المتطرف لم يتحول مقصد الإعلام الجوهري ومكانه واهتماماته في مثل هذه الذكرى السنوية فحسب، بل استأثر تيري جونز وأتباعه القلائل، وفي ذات الإعلام الغربي وأقنيته الفضائية، بذات اللقب والتهمة البغيضين اللذين كانا وصمة تعميم لعموم المسلمين: إذ بدلاً من محاولة تيري جونز سحب الإعلام للحديث عن (المسلم المتطرف) فقد سحب الأضواء إليه وأصبح ذات الإعلام يتحدث في لقطة نادرة عن (المسيحي المتطرف). بفضل تيري جونز وبإهداء من غباء عقله المتطرف أصبحت – غينسفيل – وكنيسته الخبر الرئيس على الصفحة الأولى يوم العاشر من سبتمبر، وللمفارقة أيضاً انتقل – كبير مراسلي (cbs) إلى قبالة موقع إحراق القرآن وهو الذي لم يبرح – جراوند زيرو – منذ أن كان أول لسان إعلامي على وجه الأرض يقول: (بدأ البرج في السقوط) ومازالت هذه الجملة لزمة إعلامية حتى اللحظة. بفضل تيري جونز وبإهداء من غباء عقله المتطرف تحولت الخطب السياسية من التكرار الدوري والتذكير الدوري السنوي عن إرهاب التطرف الإسلامي وللمرة الأولى سمعنا بابا الفاتيكان ورئيس أمريكيا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وفرنسا لا حديث لهم إلا استجداء هذا القس بفكرة العدول وبالتحذير من عواقب هذا العمل. ومثلما كنا نسمع يومياً بمصطلح اليمين الإسلامي، حوّل تيري جونز نشرات الأخبار إلى الحديث العلني عن اليمين المسيحي. هنا يقدّم تيري جونز درسا هائلا لكل عقل متطرف على وجه الأرض. التطرف والمتطرف لا يخدمان قضية بأكثر مما يخدمان قضية العدو التي يناضل من أجلها المتطرف. حاول تيري جونز أن يكوّن هذا العام من (سبتمبر) أسلوباً للتركيز على (يمينية) الإسلام فسحب كل الأضواء والإعلام إلى (يمينية) المسيحية. حاول تيري جونز أن يكون هذا الأسبوع بداية تدشين نمطي لأن يكون كل مسلم نسخة من أسامة بن لادن فلم يسمع إلا آلاف القساوسة وأولهم بابا الفاتيكان وهم على كل وسائل الإعلام: لا لسنا تيري جونز. هكذا يخدم التطرف كل الأفكار التي يعيش يقاتلها ويصارع ضدها.