بعد 24 ساعة فقط، من إعلان "جوجل" أنها مستعدة لإزالة الروابط التي تتعلق بأشخاص معينين في أوروبا إذا تلقت طلبات من هؤلاء الأشخاص بذلك، تلقت جوجل 12,000 طلب من أنحاء أوروبا بإزالة الروابط الخاصة بهم من محرك البحث. الرقم الهائل الذي جاء ردا على إعلان جوجل يعطي معيارا بأن جهد المحكمة الأوروبية كان منطقيا. المحكمة ضغطت على جوجل والتي اتخذت قرارا طوعيا بالموافقة على ما يسمى بــ"الحق بأن تُنسى" (Right to be Forgotten)، وسمحت لأي شخص أوروبي أن يطالب بحذف الروابط (وطبعا هذا لا يعني حذف الموقع نفسه) من محرك البحث.
هناك لوبي في أوروبا يقف وراء هذه المطالب، ورئيس اللوبي صرح للصحافة الأوروبية بأنه غير راض عن هذا الإنجاز، رغم أنه الأول من نوعه عالميا، وذلك لأن جوجل تشترط الحصول على صورة من إثبات الشخصية، ومبررات واضحة مع الطلب، وهذا في رأيه اختراق آخر للخصوصية. رئيس اللوبي أيضا غير راض لأن من يريد ممارسة الحق بأن تنساه شبكة الإنترنت، عليه أن يراسل كل موقع على حدة بدلا من وجود آلية تحميه بشكل عام.
هذه القصة تؤكد وجود اتجاه عالمي ضد الشبكات الاجتماعية وفقدان الخصوصية طويل المدى عليها. هناك في الحقيقة موجة عالمية، وليست أوروبية فقط، تصاعدت هذا العام ضد الشبكات الاجتماعية، وخاصة فيسبوك وتويتر، لأن تصاعدها في حياة الناس وصل حدا لا يتحمله الكثيرون، فمن جهة، عدم تواجدك على الشبكات الاجتماعية يعتبر مسيئا لك في مكان العمل ووسطك الاجتماعي، ومن جهة أخرى، تفرض عليك الشبكات الاجتماعية عددا كبيرا من الأصدقاء والعلاقات الاجتماعية، ولأنها تلغي الخصوصية، وتحتفظ بلحظاتك التي وجدت على تلك المواقع لفترات طويلة جدا.
هذا لا يعني أن هناك من لا يعشق الشبكات الاجتماعية، ويتمنى المزيد منها في حياته، ولكن هناك من يتمنى الهرب من الشبكات الاجتماعية، لأنها تفرض علينا –كما يقول أحد الكتاب الأميركيين- أن نكون شهودا على كل معارك الناس ومشكلاتهم وسخافاتهم، ولأنها تفرض علينا أن نخلق شخصيات أخرى لأنفسنا هناك، أكثرها مزيف، تعرضت لعمليات تجميل، ودائما جاهزة للحديث والتفاعل مع كم هائل من الناس الذين يدعون أنهم أصدقائنا.
في الاتجاه نفسه، ظهرت مجموعة من الدراسات والأبحاث التي تركز على سلبيات الشبكات الاجتماعية، مثل تأثيرها على السعادة اليومية، ورفعها لمستوى القلق، والتقليل من الثقة بالنفس، والتأثير السلبي على الذاكرة والإبداع، وغيرهما.
هذا كله خلق موجة شعبية في الغرب بدأت تسمى بـ"معاداة الشبكات الاجتماعية" (Anti-Social Networks)، التي بمجرد أن تصاعدت، ظهرت مجموعة من التطبيقات والمواقع المخصصة لأعداء الشبكات الاجتماعية، لتقدم لهم عدة خدمات، في تجاوب مع هذا الحجم الكبير من الناس.
أحد هذه التطبيقات اسمه "Cloak" يرصد لك كل الناس الذين لا تريد مقابلتهم في حياتك من خلال الشبكات الاجتماعية، ويرصد لك تحركاتهم على الخرائط، ويحذرك إذا اقتربوا منك، أي عمليا يساعدك على الهرب من الناس بدلا من الاقتراب منهم.
تطبيقات أخرى تساعدك على أن تقول ما تريد بدون أن تظهر هويتك، وأخرى تسمح لك بالحديث مع تقليل إمكانيات التفاعل مع الآخرين، ونوع ثالث يسمح لك بالتدرج في كشف معلوماتك للناس.
كل هذه مجرد محاولات لاقتناص فرصة الموجة الجديدة والاستفادة من جماهير الهاربين من جحيم الصداقة الزائفة، أو كم العلاقات الاجتماعية الزائد كثيرا عن حاجة الإنسان، أو أن تنكشف كل أسرارك تحت الشمس.
لكن هذا كله هو فقط البداية، أما النقلة الحقيقية فهي التحول في ثقافة العمل والتي صارت تعشق الموظف النشيط على الشبكات الاجتماعية بحكمه وسيلة إعلان متنقلة عن الشركة التي يعمل فيها، وهو تحول صعب أن يحصل ما لم توجد قوانين وأنظمة معينة تفرضه بشكل أو بآخر. معظم الذين يتواجدون على الشبكات الاجتماعية رغما عنهم يفعلون ذلك لهذا السبب، وهذا لن يعالجه وجود أي عدد من البرامج أو التطبيقات المعادية للشبكات الاجتماعية.
هذا التحول الإنساني من عشق التفاعل مع الآخرين، إلى الهرب منهم، هو تحول طبيعي مع حالة المغالاة لدى الكثيرين في التعامل مع الشبكات الاجتماعية. الأمر غير الطبيعي هو السرعة الهائلة التي صارت تمضي بها حياتنا وتتغير بسبب الاتجاهات الاجتماعية. خلال أقل من عشر سنوات، غيرت الشبكات الاجتماعية عالمنا وحياتنا إلى الأبد، ولكن قبل اكتمال سنوات فقط من هذا الانبعاث الخرافي، تظهر شمس الغروب من بعيد.
ربما: كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده!