لم يكن يصلي الصلوات في وقتها، فضلاً عن صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة، حتى بعد أن التزم دينياً لا يزال يجد صعوبة في أداء صلاتي العصر والفجر في المسجد ومع الجماعة! ومع ذلك ينصب نفسه مفتياً على الجميع دون نفسه!
يتقلب البعض بين طرفي نقيض خلال أيام قليلة، وبينما البعض الآخر يبني شخصيته ويطورها تدريجياً خلال سنوات؛ يتحوّل هؤلاء وكأنما أصابتهم شحنة كهربائية صادمة، لينتقل الفرد بين ليلة وضحاها من شاب طبيعي، يبحث عما يحبه الشباب؛ إلى شخص آخر لا تكاد تعرفه، فقط محاربٌ للمتعة والحياة الوسطية، والمأساة هنا أن هذا التحوّل "الإيجابي" في رأيه؛ يكون في الغالب تحولاً ناقصاً ومليئاً بالعيوب، فهو لم يحقق من الالتزام الديني سوى إعفاء اللحية وتقصير الثوب، وهي ممارسات بسيطة لا تحتاج إلى عمل دؤوب أو جهاد نفس، بينما تراه "هو" مقصراً في الواجبات الدينية الأخرى خصوصاً حينما يكون بعيداً عن أعين الناس.
الأسوأ من ذلك استمرار هؤلاء في بعض الممارسات غير اللائقة، كمشاهدة مقاطع الجوال المحتوية على صور نساء وموسيقى، بالطبع هي محرمة في رأيه وممارستها فقط إذا كنت تشاهدها أو تسمعها بلذة وتذوق، أما أن تشاهدها عارضة فهي في أقل الأحوال "مكروه"، هكذا يفصّل الدين على "مزاجه" دون خوف من الله أو حياء من الناس. وتتواصل رحلة التحوّل الانتقائي ليحفظ بضع آيات من القرآن الكريم وحديثاً شريفاً أو اثنين، سمعها على عجالة من شخص لا يعرف إلا كنيته، ولا يعرف عنه أي شيء آخر! وخلال أيام قليلة لا يجد غضاضة في تحريم أموال الدولة أولاً، ثم تكفير المجتمع ثانياً، ثم عائلته ووالديه في مرحلة لاحقة!
بيد أن المأزق الذي يقع فيه كثيرٌ من محدثي الالتزام؛ هو أن هذا الالتزام يحتاج إلى جلدٍ قوي، وصبرٍ على المكاره، فالالتزام الشرعي الحقيقي ليس نزهة خاطفة تنتهي بعد بضع ساعات، بل رحلة حياة ومشروع قدوة، وللأسف فإن كثيرين يكتشفون أنها رحلة صعبة وطويلة، لذا قد ينتكس البعض في البداية ويعود إلى حياته السابقة، أما البعض فيحاول الاستمرار حتى لو كان أعرج، وأما آخرون فيختارون الطريق الأسهل للجنة، وهو ما أُطلق عليه "دليفري" فلم كل هذا التعب والجلد، وقيام الليل، وبر الوالدين، وإعمار الأرض، ومساعدة المحتاجين؛ إذا كان هناك طريق سهلٌ بسيط وسريع، ولا يحتاج خبرةً ولا تعباً، بل مجرد سفرة سريعة، وحمل سلاحٍ لا تعرف عنه شيئا، لتقاتل مع مجموعة لا تعرف عنهم شيئاً سوى حقدهم على كل ما ينتج من هذه البلاد الطاهرة، ثم لتقتل إنساناً قد يكون مسلماً مثلك، والنتيجة السريعة والمباشرة -كما يعدك هؤلاء- هي: الجنة! هكذا وبكل بساطة.
للأسف تحوّل بعض الشباب السعودي الذي يهرع لنصرة المستضعفين من المسلمين إلى دمية يلعب بها قادة التنظيمات المتشددة، فهم يدركون أن هذا الشاب قادم من بيئة طيبة مسالمة، بقلب ساذج، وهو متحمس ليقدم أي شيء، بالذات لمن كان عنصر نقص سابق في بلده، كأن يكون عاطلاً أو موظفاً مغموراً، زد على ذلك حماسة دينية طاغية تجعله يوافق على أي طلب، حتى لو كانت حياته هي الثمن، بالطبع هو جاء ليقدم حياته ويحصل على الجنة بسرعة فائقة، فهو لن ينتظر ليصلي ويصوم ويزكي ويحج، فتلك طريقٌ شاقة ليست لأمثاله! والأمثلة على ذلك متعددة، فأغلب العمليات الانتحارية أبطالها سعوديون، وأشهرها على الإطلاق: عملية الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة، فخمسة عشر فرداً من المنفذين التسعة عشر هم سعوديون! فضلاً عن كثير من العمليات الانتحارية في العراق واليمن ولبنان، ومؤخراً في سورية.
بل الأسوأ من ذلك هو استمراء هذا الطريق، والعودة إليه المرة بعد المرة، كما حدث مع السعودي "أحمد بن عبدالله الشايع" الذي غُرر به مرتين، إذ انضم أولاً إلى جماعة "أبو مصعب الزرقاوي" في العراق عام 2005، وقاتل معه، ثم وبعد أشهر قليلة، أي في يوليو من العام نفسه اختير "الشايع" لعملية "الصهريج المفخخ"، التي نفذها في بغداد ولكنها لم تؤد إلى قتله، إذ بقي على قيد الحياة، ولكن مع جسد محروق تماماً، لتقبض عليه السلطات العراقية، ثم تسلمه في نهاية الأمر للحكومة السعودية، حيث عولج من حروقه واستعاد حياته، بل إنه ظهـر على القنوات الفضائية بعد ذلك ليتحدث عن تضليله والتغرير به من قبل المتطرفين! ليمنح فرصة جديدة ويطلق سراحه، ولكنه للأسف وبعد فترة قصيرة تواترت الأنباء عن سفره مرة ثانية إلى جبهات القتال، ولكن هذه المرة إلى سورية، وكأنما يتوق لتنفيذ عملية انتحارية ثانية، لا يختار لها سوى الشباب السعودي!
ثم السؤال الأهم هنا: ما الهدف من كل هذا هل هو الشهادة في سبيل الله بحد ذاتها؟ أم نصرة القضية؟ بالطبع سوف يؤكد الغالبية أنها الشهـادة في سبيل الله، كون الجهاد في سبيله هو "ذروة سنام الإسلام"، لكنهم بالتأكيد لن يعرجوا على نصرة القضية الأساسية، وهل هم في المعسكر الصحيح أم ماذا؟ وهل ينطبق على كل هذا مفهوم الجهاد في سبيل الله؟ ذلك أن ولي الأمر لم يأذن به، ثم لم لا ينصر هؤلاء الإسلام بالدعوة ومساعدة الفقراء في أفريقيا؟ أم أن الدعوة في القارة السمراء طويلة وبالتالي متعبة ومجهدة! أسئلة متعددة لن يستطيع هذا الشاب الإجابة عنها، هذا الشاب الذي يذهب دون أن يستأذن والديه، أو يذهب وقد ترك وراءه زوجة شابة وأطفالاً صغاراً؛ ليتحول إلى حطب إضافي يتحرق دون وعي منه، في معركة لا تعرف أي راياتها أصدق وأقرب إلى الصواب، ولكنه هدف الحصول السريع على الجنة بسرعة الـ"دليفري" دون أن يجتهد بصدقٍ في الحياة الدنيا، ودون أن يعمل ويعمر أرض الله سبحانه وتعالى!
عزيزي: تلفت حولك قليلاً؛ حتماً سوف تجد عائلة سعودية قد اكتوت بنار هؤلاء، سوف تجد أباً يحترق في داخله، وأماً تموت مرات عديدة، بينما فلذة كبدهما لقمة سائغة يتقاذفها المتاجـرون بالدين، وبقية المجتمع لا يفعل أي شيء تجاه من يحرّض ويدعو وهو نائمٌ هنا، ونحن غافلون عن أبنائنا الذي يصدقون هؤلاء بكل بساطة، ولا يسألون السؤال البريء: لماذا لا تذهب أنت؟ لماذا لا يكون ابنك هو الانتحاري القادم؟ للأسف لن تحس بمرارة هذه القصص إلا حينما يقع من تحب فريسة لهؤلاء، والله المستعان.