تعقيباً على مقال الدكتور علي سعد الموسى المنشور في "الوطن" تحت عنوان (العرب وتزييف الوعي التاريخي)، على صدر عددين متتابعين بتاريخ 20، 21 يناير 2014، أنطلق معقباً على مقاليه إلى مساحة أخرى، وهي أن حالة تديين التاريخ هي خطاب فكري لجماعات معينة تستخدم هذه المفاهيم لاختطاف العامة في عملٍ حركي يتم استخدامه كورقة مساومة لصالح حركات الإسلام الإسلامي، التي حاولت فصل مفهوم الجهاد عن سياقه الطبيعي كجزء من منظومة العمل العام أو على الأقل إن أحسنا النوايا هي رافد للجماعات ذاتها إن لم يكن خطاباً لها.
محاولة تديين التاريخ هي في حد ذاتها مشكلتنا مع الخطاب الجهادي اليوم، حين يتم تغييب الجوانب السياسية والاجتماعية، بينما يتم تسويق التاريخ في الحاضر كعملية دينية مقدسة تحكي التاريخ بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية بدلاً من أن يكون الجهاد عملاً عسكرياً ضمن المنظومة السابقة. ومروراً بمناهج التاريخ التي يتم تدريسها في مدارسنا وكيف تم تديين القراءة للتاريخ وكأنها حقائق لا تقبل النقاش وتم إغفال كافة الجوانب عدا الجانب الجهادي من التاريخ وكأنه عمل منفصل إما قصداً أو سهواً وأبدأ من هنا تقييم المخرجات وكيف تجهل عقول الطلبة كل التاريخ ولا تعرف منه إلا العمل الجهادي وكأنه التاريخ وحده، وهي خطوة ثانية لفكر الإسلام السياسي الذي كتب بعض مناهجنا بعد خطوته الأولى في تقديس التاريخ عن طريق اعتباره موروثاً دينياً. على مدى التاريخ الذي نقرؤه اليوم، كانت كل الخطابات التاريخية تمر عبر بوابة "الدين الحركي" ولهذا أصبح الجهاد للعامة غاية وفق الخطاب الفكري للجماعات ذاتها، التي تستخدم هذا الوعي لمكاسب تكتيكية وهي تعلم أنها تجتزئ من التاريخ ما يوافقها وتغفل نتائج تغذية الوعي الجمعي بهذا المفهوم الكارثي وتستخدمه وسيلة من وسائلها وورقة يتم اللعب بها على طاولة السياسة، والانقلاب على هذه "الغاية" لتصبح وسيلة، ومن هنا يقرأ الوعي الذي تمت تغذيته أن التوقف عن العملية الجهادية في وجود السياسة عمل مناقض "للغاية" الجهاد، وبالتالي ضد ثابت ديني مقدّس. بينما يستميت البعض في تديين التاريخ وتقديسه، يقف الوعي الجمعي ضد القراءة والتفكيك وكأنهم يقفون على مقدس بينما تقف الأذرعة الفكرية لحركات الإسلام السياسي في العصر الحديث كرافد ومغذٍّ لهذا الوعي، مهاجمة كل من يحاول المساس بهذا المنطق لأنه بداية تهاوي نظريتها وكأن العملية دينية بحتة بعيدة عن الرأي السياسي والاجتماعي والاقتصادي. مجرد خطوة أولى في هذا المسار هي تفكيك لأهم أجندة الإسلام السياسي وأهم رافد بشري لها، إذ إن استخدام هذه القراءة الملائكية للجهاد تلغي عقول كثير من المتحمسين ليصبح الجهاد عملاً مستقلاً بذاته! هنا تحدث الأزمة مع الذراع التنفيذي لحركات الإسلام السياسي التي تم إقناعها أن العمل الجهادي "غاية" عن طريق قراءة التاريخ الجهادي قراءة مجزوءة تغفل النظر عن الجوانب الأخرى، ويبدأ الذراع التنفيذي للحركة بالانقلاب على الذراع الفكري الذي غذى هذا الوعي وأقنع الذراع التنفيذي أن الجهاد "غاية" لا وسيلة. والقضية في التحليل السابق هي أن المواجهة لا تحدث بين المنفذ والمفكر، بل يدفع ثمن مكاسب "المفكر الحركي" المجتمع البريء عبر ردات فعل الأذرعة التنفيذية لحركات الإسلام السياسي التي تنتصر لوعيها الذي غذاه المفكر وانقلب عليه. أياً كانت النوايا والشخوص التي أسست لهذا الوعي، المهم أننا نقف أمام نسق ثقافي يؤسس للعمل الجهادي وفق هذه النظرية وكأنه يختزل الرأي السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي في قرار "الجماعة ومفكرها" بناء على نسق ثقافي يدعم هذا التوجه.
نحن أمام نسق ثقافي يقدس التاريخ ويتم تغذيته في مناهجنا ومنابرنا وبعض دعاتنا، يبدأ بحالة قطيعة مع المجتمع ومؤسساته ويرفض أن يخضع للعملية الطبيعية التي يُعتبر فيها الجهاد عملا مؤسسيا يخضع لرؤى عدة، لا يمكن أن يتفردّ بها شخص أو نسق وينتهي بعمل حركي مستقل عن السياسي والاجتماعي والديني. والقضية الأكثر عمقاً أن يصبح التاريخ مصدر تشريع آخر وسقف تطلعات الشباب وكأننا نحلم أن نعود للوراء في عملية مستحيلة الحدوث تبدأ بالإيمان بالتاريخ المقدس ثم مقارنته بالواقع ثم رفض الواقع والقطيعة معه ثم محاولة العودة عبر عمل حركي يكسب فيه "بعضهم" ويخسر فيه الدين والمجتمع الكثير من الأرواح البريئة! هنا يصبح التاريخ سقف أمل ومصدر تشريع وصورة للكمال التي يحلم بها كل شاب نشأ على هذا الوعي، وهنا سبب آخر من أسباب حالة اليأس التي تعاني منها شريحة كبيرة من الشباب المسلم، وهي أنها تحلم بالماضي المقدس الذي قرأته وتتطلع له بينما يتم استغلال حالة اليأس لتغذية الإسلام السياسي في أقل الأحوال والفوضى والطائفية والحروب الأهلية في أسوأ الأحوال