بدعوة كريمة من قناتين فضائيتين كنت ضيفا متحدثا عن أدب الحوار وفن إدارة الاختلاف والقيم المرعية. ليس من الضروري أن يتفق البشر في أفكارهم ورؤاهم أو أن يقنع أحدهم الآخر، ولكن من الضروري أن يكون هناك حد أدنى من الاحترام للرأي الآخر. ادعاء امتلاك الحقيقة وتسفيه الرأي الآخر دليل على الإفلاس المعرفي. الوصاية على العقول تثير أسئلة مشروعة أيضا حول حرية الفكر ومعايير الضوابط.

يعتقد البعض أن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ وكل ما سواه خطأ لا يحتمل إلا الخطأ، من الجميل أن يكون هناك اختلاف وليس خلافا وأن يدافع الإنسان عما يعتقده وينافح عنه لكن فرضه على الآخرين كمسلمات لا تقبل النقد أمر سيئ.

المشهد الأدبي والثقافي يعاني كثيرا بسبب عدم المقدرة لدى الكثيرين على إدارة الاختلاف أو فن الاختلاف إن جاز التعبير. في أحايين كثيرة يشعر الإنسان بالأسى حين يستخدم كثير من الفاعلين في المشهد أو ممن يحسبون على التنوير للأسف مصطلحات متشنجة مع مخالفيهم أو يصمونهم بتهم معلبة جاهزة فقط من أجل نشوة الانتصار المزعوم وإن كان على حساب المصداقية والمعايير الأخلاقية. لغة الحوار المستخدمة أحيانا لا ترقى للمستوى المطلوب مما يجبر الإنسان على التوقف والتأمل ومزيد من تحليل المشهد لعل العقل أن يستوعب لماذا وصلنا إلى هذا المستوى المتدني في إدارة حوارنا واختلافنا حول قضايا معينة.

التصنيفات السلبية تطغى كثيرا حتى في حوارات النخبة أحيانا، ثقافة الحوار غائبة بينما يفترض أن تكون موجودة وبقوة في البيت والمدرسة والشارع وفي العمل وفي كل تجمع إنساني. المجتمعات التي تقيس تقى الإنسان وزهده واعتدال سلوكه بعدد الشعرات التي تنمو في ذقنه هي مجتمعات تحتاج لإصلاح عاجل في منظومتها الفكرية وتعاني من خلل وعلل في التفكير.

تبادل التهم بين الجميع لا يدل على تحضر ونسمع في حياتنا اليومية من يطلق على المخالف بقصد التشويه أقذع الصفات لدرجة تصل إلى التخوين. الفكر من وجهة نظري كطائر محلق في الفضاء لا تحده الحدود ولا سقف له، الحقيقة أن النخب التي يفترض فيها قيادة حركة التغيير سلبية وغير مؤثرة. المثقفون سلبيون مشغولون بصراعاتهم النظرية التي يقوم أغلبها على النفعية الآنية أو التهويم في عالم أسطوري كما يقول البعض، وأدعياء العلم على ركاب الجمهور بين جدل وتوجيه لشتات متشعب يشغل الناس عن تغيير أو تنمية، وهذا في الغالب الأعم إلا من رحم ربي، وهؤلاء قلة لا بد من مضاعفتها إن خلصت النية.

المعرفة والتغيير الحقيقي يبدآن من الفكر وليس من المباني وإسكات العامة بالديكور الخارجي وافتتاح وتدشين إنجازات وهمية تسقط مع أول اختبار واقعي كما يحدث في مراكز الحوار في عالمنا العربي. يعتقد البعض أن السبب الرئيس للإقصائية هو الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة واختفاء النسبية وأن المؤسسة الدينية الرسمية وما توالد منها من تيارات لاحقا هي الداعم الرئيس لذلك. ربما نحتاج للاختلاط عن قرب بالشعوب والثقافات المختلفة، النظرة النمطية للآخر شكلت وعيا مزيفا لا يرى إلا الصورة التي يريد أن يراها فقط. العيش في قوقعة قد يكون مريحا نفسيا ويشارك بالأمان لكنك في واقع الأمر أسير وبإرادتك، معرفة الآخر مهمة جداً، خصوصا في عصر العولمة لحوار حقيقي. القيم مهمة جدا وعلاقتها متجذرة وراسخة بتطور حرية العقل، القيم المادية المرتبطة بالمال والاقتصاد قد أثرت على القيم المعنوية والروحية فأصبح المجتمع يطوع القيم الإنسانية كيفما تكون مصالحه، فكثر على سبيل المثال النفاق الاجتماعي وتقلص التواصل الحقيقي بالرغم من توافر مقاماته، وبالتالي فإن الهوة ستتسع مستقبلا في ظل الانشطار الذي يشهده المجتمع والتمايز بين مدخلات حياته ومخرجاتها وتلك سنة كونية بمعنى أنه قد يتأرجح بين النمو والتوقف والتسارع.

يقول البعض إن القيم لا يكون بينها صراع إنما على القيمين عليها وربما تكون أحيانا عادات وليست قيما في بعضها بينما يرى آخرون أن هناك أشكالا في سيكولوجية القيم وأن أعظم صراع بين القيم، قيم الخير والشر قيم الحق والباطل، وأن هناك صراعا قيميا في المجتمع له أسباب داخلية وخارجية. تدافع أحيانا وليس صراعا ونتاجه إيجابي.

تساؤلات في ذهني أحببت أن نشترك في الحديث عنها معاً هنا.