ترف وأعراف وعادات وتقاليد، وحرير وطيلسان امتزج عبيرها بعطور ذابت بين أحجارها وتعطرت به منابتها ومبانيها، فتذرُّه لنا سبيب الخيل حينما تصل في كل مكان بصهيل عهدناه! رمال ذهبية تدرجت في لوحة رسمها المولى عز وجل، كما أنها في بعض الأحيان تأخذ من ألوانها البنية في تمازج من الألوان الحمراء والزرقاء والذهبية، تموجات وكأنها عرائس تراقصن زهوا لحراسة الأرض من غزو السماء. يقول عنها ويلفريد وتسينجر: "سافرت عبر شعاب أكراكورام، وهندوس، وكوش في جبال كردستان، ومستنقعات العراق، مدفوعاً دائما إلى الأمكنة البعيدة.. وعشت بين قبائل عجيبة، ولكن ما هزني مكان من هذه الأمكنة، ولا راعني منظر من هذه المناظر أو أثر فيَّ شعب بقعة من البقاع التي زرتها، كما فعلت صحراء شبه الجزيرة العربية".

ثم يقول عنها لورانس في كتابه الأعمدة السبعة: "هناك تخوم متلألئة فوق الضباب. ومن فوق رابية صغيرة بالقرب من مخيمنا نظرنا وشاهدنا الموجات المتحركة من الضباب في السماء، وكما ظهرت من هناك رؤوس أو قمم الخيام، وخطوط من الدخان الصادر عن تلك الخيام ترتفع عالياً في الهواء النظيف، كما لو أنها مندفعة من قِبل ضجيج الجيش غير المرئي.

وتقول في هذا كاتبة هذه السطور محدثة خالتها عن ذكريات الطفولة في القرية الصغيرة:

من السوق عادت جارتك للنار شبت بالحطب.. تعلن مداخنها عن اللحم بدخان يمر

بقريتي كانت سحابات الدخان لنا بِشِر.. لا تحسبين أن السواد يجلب لنا حزن أو كدر

في ربعنا نهواه لأنه لون اللحى ولون الغرر.. ولون أعين البنات ولون ماء في البير

ولون حبات العنب قلب الزبيب المفتخر.. ولون حب الهِيْلِ والعُودَة وأيضاً للجمر

في جلسة تجمع جميع الربع ساعات المطر.. مطر . مطر. مطر. مطر.

ولرمال الصحراء سحرها ولتكويناتها أجمل لوحة ربانية رسمها الخالق عز وجل ويقول ويثسجنر: "كانت طبيعة الأرض هذه تبدو كمثل السجادة تحت أقدام جمالنا. وكانت ذرات الرمال نظيفة ومصقولة، وتبدو تحت أشعة الشمس مثل حبات الألماس الصغيرة وتعطي انعكاسا شديدا جداً. ومع هذا الجمال الطبيعي البكر، فإنها قد تكون مهلكة في بعض الأمكنة.. وهأنذا أول أوروبي يشاهد هذه الظاهرة. فالأرض هنا تتكون من مسحوق جبسي أبيض مغطى بطبقة من الملح نصحوني بعدم الاقتراب بضع خطوات.. أكدوا لي أن فرقة لصوص قد هلكوا في هذه الرمال. قال أحدهم: إنه رأى قطيعا من الماعز يختفي تحت سطح هذه الأرض" ومن جمال هذه الطبيعة أنها تغني أصواتا رائعة تسمى غناء الرمال، وإن اشتد أسموه زئيرا، فيقول: "طرق سمعي طنين منخفض أخذ يزداد حتى أضحى كأزيز طائرة، واندفعت الإبل مذعورة وتفرقت، ثم توقف الصوت عندما وصلنا قاع المنحدر. إن البدو يطلقون على هذا الصوت "غناء الرمال" ويصفونه بالزئير، وهو ينتج عن انهيار طبقة من الرمل على وجه أخرى".

ولهذه الطبيعة ألوان متناسقة ومتناغمة تسحر البصر، "وكان لون رمال هذه السهول زاهياً، متعدد الألوان، ففي بعض جهاتها يكون لونه كلون اللبن، وفي أماكن أخرى يكون بلون القرميد الأحمر، وفي ثالثة يكون لونه ذهبيا".

ثم تمتد هذه التلال من الغرب إلى الشرق، على شكل سلاسل متوازية، يبلغ ارتفاع قممها حوالي الثلاث مئة قدم، وبينها وديان واسعة حافلة بالشجيرات الخضراء. وبالرغم من حب أهل هذه الأرض للمطر إلا أنه من الغريب أنهم يحبون مطر الصيف، لأن مطر الشتاء يبقى مدة أطول، فقد تنحبس بسببه مواشيهم ويندر الرعي أثناء المطر، وبالرغم من حبهم للمطر أيضاً أنهم لا يحبذون المطر الغزير بقدر حبهم للمطر الخفيف الهادئ، ويطلقون عليه اسم "الهميل" لأنه يتخلل الأرض ببطء، ولا تنجرف المياه في شكل سيول فيذهب الماء سريعا دون تغلغل في طبقات الأرض فتنبت به مراع تسعدهم فيما بعد.

ولم تكن هذه الطبيعة مهملة لكل عابر سبيل، بل تحكمها تلك الأعراف والتقاليد وسلطة غير مبرمة تتوارثها الأجيال، بوجدان وعقيدة قلما توفرت في ربوع أخرى في العالم أجمع. يقول عنها هذا الرحالة الإنجليزي: "إن الرجال نظروا للصحراء على أنها أرض جرداء قاحلة، أو تحمل بحرية كل ما تختاره، ولكن الحقيقة فإن كل تلة وكل واد فيها له أو لها رجل يعتبر مختصا ومطَّلعا بها، ويمكنه أن يؤكد بسرعة حق عشيرته وقبيلته فيها ضد أي اعتداء أو عدوان. وحتى الآبار أو الأشجار يوجد لها أسيادها، الذين يسمحون للناس أن يوقدوا من أشجارها ويشربوا من آبارها بحرية، طالما تطلبت حاجتهم لذلك، ولكنهم في نفس الوقت (هؤلاء الأسياد) يدققون بشكل مستمر في كل واحد يحاول ملكيتها لحسابه، أو أن يستغلها، أو أن يحوِّل إنتاجها لصالحه، أو منفعته الخاصة من بين الآخرين. إذ إن الطبيعة والعناصر المتواجدة فيها هي للاستخدام الحر لكل شخص صديق معروف من أجل استخدامها في أغراضه الخاصة وليس أكثر، والنتائج المنطقية هي في تقلص هذه الرخصة ليقتصر امتيازها على رجال الصحراء، وقسوتهم وصلابتهم بالنسبة للغرباء غير المزودين بالتعريف أو الضمان، حيث الأمن المشترك يكمن في المسؤولية المشتركة للأقارب والمعارف"، ومع ذلك لم يكونوا عدوانيين أو متعصبين ضد أي غريب كما أنهم قوم يركنون إلى المؤانسة والجماعة، فليس للفردية مكان بينهم. كما أردف قائلاً "إني دائم الحنين إلى الوحدة، وذلك هو الشيء الوحيد الذي لا يشعر به البدوي طيلة حياته، فقد سألني الإنجليز كثيرا هل شعرت بالوحدة في الصحراء.. إنني لم أشعر يوما بالوحدة وأنا بين الأعراب لقد زرت مدنا عربية لا يعرفني فيها أحد، ودخلت أسواق العرب، وكنت إذا حييت بائعاً دعاني إلى الجلوس معه وأرسل في طلب الشاي وانضم إلينا أناس كثيرون، يسألونني عن حال مقصدي ولا يكتفون بذلك بل توجه إليَّ الدعوات من مختلف الأفراد للغداء والعشاء! ترى كيف يشعر مثل هذا العربي لو أنه زار إنجلترا لأول مرة؟ إني لأرثي له فسيجد فارقا بين عادات وعادات!".

لماذا لا نعظم إرثنا الذي هو مكنون شخصيتنا التي تشكلت به، ولا فكاك منه مهما طرأ عليه من تحديثات وغزوات ثقافية؟ لم لا نجدد ذلك كل يوم في إعلامنا ومدارسنا، لكي يعلم الجيل إرثه والعالم أيضا أن لنا حضارة! ومن الغريب أن العالم يعلم ذلك ونحن لا نعلمه! فمن هو المنوط به الإرث وتعزيزه؟! فكل شيء لدينا يستحق التعظيم.