كم هو جميل أن تعود إلى بلد أقمت فيه فترة كانت كفيلة بأن يصبح جزءا منها بك،عدت إلى عاصمة الضباب، وكما هو معروف عنها استقبلتني بمطرها وعواصفها الدائمة، لكن هذه المرة عدت كسائحة، فكنت أحاول أن أرى المدينة بعين السائح وليس بعين المقيم، فأول ما التقـطت عيني من نافذة الفندق في تمام السابعة صباحا مجموعة لا منتهية من البشر يسيرون في جو بارد ممطر، من أجل جمع المال لحالات إنسانية، أول سؤال تبادر إلى ذهني بعد أن رأيت إحدى المشاركات هوت على الأرض، وأخذ المسعفون المرافقون للمسيرة في إسعافها، ما الشيء الذي دفعها وغيرها للمشاركة في هذا الطقس غير المناسب لمثل هذا النوع من الفعاليات؟

ما درجة الإنسانية التي وصلوا إليها فدفعتهم للتخلي عن يوم إجازتهم وراحتهم، بل والقيام بكل هذا المجهود الجسدي؟

باختصار وبلغتنا الدارجة يقال عنهم "ناس فاضية"، وكي نفهم أكثر محركهم يجب أن نعرف ما القيمة الإنسانية، وهل يمكننا قياسها؟

وكي نعرف، يجب أن نفهم الطبيعة الإنسانية، فكل ثقافة لها منظومة القيم الخاصة بها، وما يربى عليه الإنسان منذ الصغر، بمعنى آخر كل الأفكار والقيم العلمية والدينية والتراثية والغيبية، لذلك كل ثقافة لها فهم معين خاص بها.

لكن ما هو ثابت في جميع الثقافات أن الإنسان عبارة عن موضوع وذات، فإذا قُيّم على أنه موضوع فيكون قيمة مادية فقط، لكن إذا قُيّم على أنه ذات فيكون قيمة معنوية أي "كائن مفكر" له أهداف، أحلام، مقدسات، أفكار خاصة يجب أن تحترم، وليس كائنا ماديا فقط.

على هذا الأساس، تكون القيمة الإنسانية متدرجة وبنسب مختلفة.

عندما حول ديكارت مفهوم الطبيعة الإنسانية حول هذا المحور باتجاه الإنسان ككائن مفكر. فقد ربط ديكارت فكرة الوجود بالتفكير، فعندما لا يفكر الإنسان فهو غير موجود.

باختصار لقد حول ديكارت القيمة الإنسانية من الموضوع إلى الذات.

بمعنى أن يكون للإنسان قدرة على التغيير، أن يكون له مشاعره وأحلامه الخاصة التي تميزه عن الآخرين.

عندما قال ديكارت جملته الشهيرة: "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، كان يأمل ـ كما أنا آمل ـ أن يتم تصحيح القيمة الإنسانية في وطني، لقد آلمني كثيرا المدح الذي حصل عليه كل من قام بزيارة إبراهيم في المستشفى صاحب التغريدة المشهورة التي نتج عنها "#زيارة_إبراهيم" ، وكأن من قام بزيارته عمل شيئا خارقا للعادة!.

أنا هنا لا أقلل مما قام بفعله الشباب، ولا أبخسهم حقهم في تلبية تغريدة إبراهيم، لكن كل ما أود توضيحه هنا، أليس ما فعلوه هو الطبيعي؟

أليس هذا ما دعانا إليه ديننا الحنيف؟

أليس هذه صورة من صور التكافل الاجتماعي في الإسلام؟، أم، هل ما رأيته من نافذة الفندق طبيعي؟ من وجهة نظرنا أم هم "ناس فاضية"؟!

وقتها أدركت أنه يجب علينا مراجعة القيم الثقافية لدينا، فنحن نعد الإنسان موضوعا، أما المجتمعات المتقدمة فتعده ذاتا، وذلك لأنه فقط يفكر إذاً هو موجود.