على "يوتيوب"، أستمتع بالوثائقيات التي تأخذ بتلابيب بعضها، لتشكل سلسلة معرفية ممتازة، وفي إحدى مرات تنقلاتي من وثائقي إلى آخر، أخذتني الصدفة إلى برنامج ياباني يعرف بالسعودية، فقررت متابعته حتى النهاية؛ لأن معرفة صورتنا في عيون الآخرين مثيرة للفضول.

مدة البرنامج 109 دقائق، وهو يتكون من قسمين متناغمين، كل منهما شاهد على الآخر: أحدهما حوار تعريفي في أستديو، والآخر جولات بالكاميرا في مناطق سعودية مختلفة.

زار البرنامج مدائن صالح، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، وتضمن إلماحات عن الرياض، ثم ذهب إلى "أرامكو" بوصفها عالَما سعوديا آخر لم ننجح في "تعميمه"، لنكون وطنا منتجا، ولنتحول إلى شعب غير ريعي، ولنكون أكثر صدقا وتسامحا معنا، ونتخلص من الانفصام المجتمعي المزمن، إلى أن عاد إلى "مقر منظمة المؤتمر الإسلامي"، في جدة.

بعد ذلك كله، كنت أنتظر انتقال المذيع والمذيعة إلى جبالٍ مأهولة بالغيم والنساء والرجال الذين يحبون وطنهم ويقسمون ألف قسم على أن وحدته وأمنه خيارهم الأوحد، وعلى أنه كتلة واحدة لا تتجزأ ولا تتباين إلا ثقافيا.

وهنا، أعني وطنا يمتد من الماء إلى الماء، ومن حدود الشام، إلى حدود اليمن، غير أن في "عقلنا" الجمعي عقولا لا تعرف من "الوطن" سوى خط أفقي رفيع، ولست أدري ما المصادر المعرفية، أو الأسباب التربوية التي خلقت بيننا كائنات غير قادرة على رؤية الوطن كاملا!

انتهى البرنامج، ولم يتضمّن عن "السروات" أو "التهائم" في جنوب السعودية "فريما" واحدا، وكأنّ "العلاقاتي" الذي رافق الفريق الإعلامي الياباني لا يعرف أن في جنوب القلب قلبا.

هذا البرنامج أنموذج لـ"التنميط" و"التهميش" الإعلاميين اللذين يُمارسان في برامج كثيرة، بل في معارض ومشاركات خارجية.

هو تنميط لأنه لا يعترف بجغرافيا الجبل والسهل، ولا يعرف من الجغرافيا السعودية غير صحرائها الأثيرة، وعليه فإنه لا يعرّف العالم بالجغرافيا السعودية إلا من خلال لون واحد، وكأن الباحة وعسير ونجران وجيزان ليست للوطن أو منه!

وهو "تهميش" لأن فاعله ـ أعني مرافق الفريق التلفزيوني الياباني ـ يهمل "متعنصرا" ما لا يُهمل، ويتجاهل "المعرفة" متوهما أنه قادر على تحويلها إلى "نكرة".

البرنامج الياباني قطرة من بحيرة آسنة تتسع وتتسع، وهو وأمثاله مؤشرات على خلل كبير يتحتم تداركه، بتجريم الممارسات والأقوال التي "تتعنصر" ضد جهات الوطن، لنبقى "وطنا سعوديا عظيما"، ونذهب إلى المستقبل بسلام آمنين.