ربما لم يشهد التاريخ العربي والإسلامي موجات من التكفير الديني في القرون الماضية بقدر ما شهدت نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. ولعل ذلك كان لأسباب كثيرة منها:

1- اشتداد دعوات الإسلام السياسي، وظهور الجماعات الدينية السياسية، التي اتخذت طريق الإرهاب، للبروز الإعلامي، وإثبات الوجود السياسي على أرض الواقع العربي.

2- فشل الأحزاب القومية والوطنية على مختلف أشكالها، وألوانها، وتوجهاتها، وعقائدها، في تحقيق أي هدف من أهدافها التي كانت تنادى بها، وتَعِدْ جماهيرها بتحقيقه.

3- ازدياد الفساد السياسي والمالي في العالم العربي عامة، مما أتاح لقيادات الأحزاب الدينية، ومنها "جماعة الإخوان المسلمين"، رفع شعار سياسي عاطفي (الإسلام هو الحل) ثبتَ أخيراً أنه شعار سياسي برّاق، ومثير للعواطف الدينية فقط، كما قال الداعية الكويتي طارق سويدان (فضائية "العربية"، 13 /8 /2010 ) واعتبر سويدان أن "دخول الإسلاميين إلى معترك السياسة يُسيءُ إلى الدين."

4- اتساع المساحة السياسية والعسكرية الأمريكية في العالم العربي. وفشل السياسة الأمريكية في الضغط على إسرائيل لحل القضية الفلسطينية. والغزو الأمريكي للعراق. مما أتاح الفرصة أمام الجماعات الدينية لمحاربة أمريكا في عقر دارها (كارثة 11 سبتمبر 2001) ومحاربتها خارج حدودها (في العراق، والصومال، واليمن، وأفغانستان، وباكستان) تحت مظلات دينية متشددة وإرهابية مختلفة.

5- تأخير حل القضية الفلسطينية، واشتداد الصراع الفلسطيني –الإسرائيلي، والصراع العربي– الإسرائيلي، مما أتاح الفرصة للأحزاب الدينية ("حزب الله"، و"حماس" وغيرهما) للظهور والاستئثار بجزء كبير من الشارع العربي المفعم بالعواطف الدينية. ورفع شعارات دينية استجاب لها جزء كبير من الشارع العربي.

دلالات التفكير العشوائي

وخلال قراءتنا لكتابي (الكواشف الخفية)، و (ملّة إبراهيم) كان السؤال الرئيسي حول هذين الكتابين اللذين كتبتهما مجموعة من الدينيين المتشددين، ممن يعلمون علم اليقين تفاصيل الحياة السياسية والدينية في السعودية خاصة والخليج العربي عامة هو: لماذا يُكفِّر هذان الكتابان دولةً بعينها، وهل هذا التكفير ديني أم سياسي؟

فإذا كان دينياً فعلى هذين الكتابين، ومن كتبهما إذن، تكفير كافة الأنظمة العربية والإسلامية، التي لا تعمل بالأفكار الدينية المتشددة، التي كانت بمثابة أحزمة ناسفة – كما اعتدنا أن نراها، ونشهد ضحاياها ودمارها – تدعو إلى التكفير أكثر مما تدعو إلى التفكير، وتسعى لتفجير الحياة بدل أن تفجِّر الإبداع في الحياة، كما سبق وقال الأمير خالد الفيصل في توجيهه لرجال وسيدات التربية والتعليم في منطقة عسير قبل سنوات.

وإذا كان التكفير العشوائي، الذي ورد في هذين الكتابين سياسياً. فكان من الواجب، والصواب، أن لا يُقحم هذان الكتابان الدين في السياسة، فالدين المقدس بثوابته يجب أن يكون بعيداً عن السياسة بتغيراتها، وتحولاتها المستمرة في كل يوم.

والسؤال الآخر الذي يبرز من خلال قراءة هذين الكتابين هو:

- ما هو مقدار علم من كتب هذين الكتابين - فرادى وجماعات – سواء في العلوم السياسية، أم في العلوم الفقهية؟

لقد كانت دهشتي كبيرة وأنا أقلب صفحات الإنترنت في المواقع الدينية المتشددة، وأقرأ الألقاب التبجيلية والتقديسية للمقدسي، وهي الألقاب التي يُطلقها البعض من على منابر المساجد في خطبة صلاة الجمعة على الإرهابي "أسامة بن لادن" وعلى الإرهابي الآخر "أيمن الظواهري". وهي ألقاب لم تُطلق على الفقهاء الأربعة الكبار (مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وابن حنبل)، كما لم تُطلق هذه الصفات التبجيلية والتقديسية المجانية على مفكرين وحُجج كبار في الإسلام والسياسة كابن تيمية والغزالي والماوردي وابن رشد وغيرهم. وقرأنا بدهشة كبيرة أن "المقدسي" (التلميذ الذي يُخطئ في الإملاء) قد أصبح على صفحات هذه المواقع الدينية المتشددة والعشوائية: "الشيخ الجليل"، و" الحبر الديني الأكبر"، و"الشيخ العارف"، و"المجاهد الأكبر"، و"الأب الروحي لتنظيم القاعدة"، و"مُنظِّر السلفية الجهادية"، و"الشيخ الأكبر"، و"المؤيد بالله" .. إلخ. ويمكننا ملء صفحة كاملة للألقاب التبجيلية والتقديسية التي تقال عن هذا التلميذ.

الأثر السلبي لهذا الخطاب

لقد صدق محمد العوين في مقاله: (شيء من تاريخ تيار ما سُمّي بـ "الصحوة" في مرحلة العقود الثلاثة المختطفة، جريدة "الجزيرة"، 18/5/2010) من أن عصام طه البرقاوي، المدعو بالمقدسي، ضلل طائفة من الشباب في السعودية والخليج وخارج الخليج أيضاً. وفي رأيي المتواضع، أن أثر هذا التضليل كان كبيراً. لأن هذا التضليل لم يكن من المقدسي وحده، بقدر ما كان من الجماعة التي يشير إليها العوين. إذن، فنحن أمام تيار، وليس أمام فرد واحد، كما أشرت في مقالي هنا، في الأسبوع الماضي. وهذا التيار كالغبار ينتشر في كل مكان، خاصة في بيئة دينية محافظة كالبيئة السعودية. وهنا تكمن الخطورة العظمى، والخطب الكبير، فيما لو سكتنا عن هذا كله، وأهملناه، واعتبرناه مجرد سقط كلام فقط، وهوس أفراد.

من التكفير إلى التفكير وقواعد التنوير

علينا أن نأخذ هذه المسألة مأخذ الجد العلمي الحديث، وذلك بالسعي للانتقال من مجتمع التكفير إلى مجتمع التفكير، باتباع قواعد التنوير، كما ذكرها المفكر التونسي محمد الحداد في كتابه "قواعد التنوير"، ولخصها في خمس قواعد هي:

1-التخلّي عن عقيدة الفرقة الناجية، واعتبار الخلاف بين البشر هو القاعدة. وأن النص لا يؤدي إلى الاختلاف، لأنه قابل للتأويلات المتعددة.

2-معاملة المتلقي معاملة الراشدين. وأن الذات لا تُدرك إلا في مرآة الآخرين. وما لم يكن صواباً كله، لا يكون خطأً كله. وعدم منع النص عن المتلقي لمجرد الاختلاف في الرأي. وأن المصادرة لا تحول دون الخطأ، فعلينا تطوير الحس النقدي لدى المتلقي، بدلاً من المصادرة.

3- الابتعاد بالقضايا الفكرية عن الغوغاء. فالجموع ليست مصدراً للحقيقة.

4- إبطال التكفير وتحديد مجال الفتوى. واعتبار الفتوى خطاب إرشاد وليست خطاب تشريع.

5- عدم التوجس من الجديد.