في العام الماضي أعلنت وزارة التربية والتعليم أن عدد الطلاب والطالبات خريجي الثانوية العامة بلغ أكثر من ثلاثمئة وستة وستين ألفا، وفي المقابل صرحت وزارة التعليم العالي بأنها مستعدة لقبول كافة الخريجين وأن مقاعدها الشاغرة أكبر من عدد الخريجين. ولكن لم يسأل أي منهما هل نجحنا في استغلال طاقة هذا العدد الكبير من خريجي وخريجات الثانوية العامة؟ هل سألناهم يوما ماذا تحبون أن تفعلوا في المستقبل؟ هل أجرينا برامج في وقت مبكر من حياتهم الدراسية نستشف من خلالها نقاط قوتهم وميولهم وأعددنا خطة مشتركة بين المدرسة والمنزل نعمل عليها لتنمية قدراتهم وميولهم؟

ما الجدوى من فخرنا بنجاح وتخريج وقبول أكثر من 366 ألف طالب وطالبة: ما هي التخصصات التي تناسب ميولهم ومواهبهم؟ والتي نرشدهم إليها ونتيحها لهم لتصقل نقاط قوتهم وتمنحهم حياة علمية وعملية يحلمون بها ويعملون فيها بحب ومتعة، بدلا من أن يعملوا بضجر وملل فقط لأنها الوظيفة التي يحترمها المجتمع أو لأنه التخصص الذي اخترناه تحقيقا لأحلام أبائنا أو بحثا عن ضمان الوظيفة والدخل المادي.

"غسان الحيدري" هو أحد الطلاب الذين احتاروا كثيراً أي تخصص يختارون بعد تخرجهم من الثانوية العامة، منذ طفولته وهو يعشق طبخ الحلويات يمضي الوقت الطويل وهو في المطبخ، يبتكر حلويات خاصة يعدها لأصدقائه. كان يتعمد أن يقدم حلوياته على أفضل وأثمن الأطباق الزجاجية لتبدو أجمل، ولكن بعد أن يقدمها لأصدقائه غالبا لا تعود لمطبخ والدته التي كثيرا ما عاتبته على تضييع أوانيها الثمينة.

في المرحلة الثانوية كبر حبه لإعداد الحلويات، وانتسب إلى منتدى "عالم حواء" الخاص بالسيدات والذي يمنع الرجال من التسجيل والمشاركة فيه، وذهب يبهرهم بمواضيعه التي تحمل أجمل الوصفات والمقادير لطبخ الحلويات المميزة، متسترا خلف "اسم مستخدم" بالمنتدى لا يكشف هويته، فكان يبدي رأيه بمواضيع زائرات وعضوات المنتدى الأخريات، وينصحهن، ويناقشهن بالوصفات والمقادير حتى اكتشفت إدارة المنتدى أنه رجل وألغت عضويته.

بعد أن أنهى "غسان" المرحلة الثانوية كان جل ما يشغله هو أن يبحث عن تخصص يؤمن له مستقبلا ووظيفة رائعة، متجاهلا ميوله وحبه لإعداد الحلويات، مستمعا لنصائح من حوله فاختار تخصص الهندسة الطبية التي يتوقع بأن يكون هناك طلب كبير عليها لنقص الكوادر المؤهلة، ولتطور هذا المجال السريع، ولكن لمعدله التراكمي بالثانوية الذي لا يتوافق مع شروط كلية الهندسة الطبية، لم يتم قبوله بجامعة الملك عبدالعزيز، فذهب للبحث عن قبول بجامعات ماليزيا، ولم يحصل على ذلك، حتى حصل على قبول جامعي من إحدى جامعات كندا، وطلب من والده أن يسمح له بالدراسة هناك، وبالفعل ذهب "غسان" لدراسة الهندسة الطبية على حسابه الخاص بكندا، ومن ثم تم إلحاقه بالبعثة.

رغم إيمان "غسان" بأن مستقبل تخصص الهندسة الطبية باهر، واجتهاده ومثابرته في تحصيله العلمي إلا أنه لم يستهوه، ولم يستطع أن ينجح فيه أو التأقلم مع مواده الدراسية التي يراها بائسة وتعيسة فتعثر وتم إلغاء بعثته الدراسية، ووجد نفسه وحيدا يصارع الفشل، ويخشى العودة لوطنه، مخيبا آمال والده ووالدته وآماله.

وسط كل تلك الصعوبات التي واجهت "غسان"، إلا أنه استمع لنداء القلب وحبه لإعداد الحلويات، فقرر أن يدرس إعداد الحلويات بأفضل معاهد الطبخ العالمية بكندا، متجاهلا عدم موافقة البعثة على هذا التخصص، وتهكم أصدقائه وأقاربه لتركه تخصص الهندسة الطبية وتوجهه للطبخ، متوكلا على الله، ومن ثم على حبه لإعداد الحلويات وعلى دعم والده المعنوي والمادي، وحقق نجاحا باهرا بعد تحقيقه لأعلى المبيعات ضمن منافسة بين زملائه بمعهد الطبخ العالمي، وذلك لتميز حلوياته بالنكهة الشرقية. "غسان" الآن تتهافت عليه العروض التجارية والوظيفية المغرية للاستفادة من موهبته التي يعمل فيها بحب خالص وعشق فيبدع ويدهش كل من يتذوق حلوياته.

يقول غسان: تداركت حياتي المهنية قبل أن أقتلها بتخصص لا أحبه وأنصح الجميع بألا يلتفتوا للتخصصات التي يتطلبها سوق العمل بقدر التخصصات التي تتطلبها مواهبهم وتهفو إليها أفئدتهم.

أغلب خريجي وخريجات الثانوية بمجتمعاتنا العربية، ما إن ينهون مرحلة الثانوية حتى يسارعوا لسؤال من حولهم أي التخصصات يختارون وينسون بأن يسألوا أنفسهم هذا السؤال، ويفوتون على أنفسهم الفرصة الثمينة التي تكمن في أن يختاروا تخصصاتهم بأنفسهم، وفقا للأشياء التي يحبونها، والتي تكبر فيها نقاط قوتهم، والتي لا يملون منها مهما قضوا الوقت الطويل بالعمل فيها.

خطأ كبير أن نختار تخصصاتنا وفقا لمتطلبات السوق التي تدلنا فقط على التخصصات التي يغلب الطلب عليها بسبب النقص في كوادرها، والتي ما إن ننهي دراستها، ونلتحق بها مهنيا، حتى نجد أنفسنا أطباء اعتياديين دون تميز أو مهندسين نعمل بملل أو اقتصاديين نكره لغة الأرقام أو إداريين لا نجد أي متعة في التطوير والتخطيط، بعكس التخصصات التي تختارها قلوبنا، فهي تمنحنا التميز بمجالنا، والإبداع في عملنا، وتصنع منا جيلا محبا لعمله، لا تنطفئ إبداعاته.