قبل نحو شهرين من الآن كتبت مقالًا بعنوان: "السيد أمين عطاس.. رمز جميل"، حاولت فيه أن أرصد بعض محاسن السيد العطاس، واليوم أكتب مقالي ـ من خارج البلاد ـ بعد أن نعى إلي ابنه أخي السيد محمد خبر وفاة والده ـ سيدي أمين ـ ، الذي رجعت نفسه المطمئنة إلى ربها (راضية مرضية)؛ فاللهم لك ما أخذت، ولك ما أعطيت، فأحسن العزاء، واجبر المصاب، واغفر ـ بفضلك ـ للفقيد، ولنا أجمعين، ولمن نودهم يا رب العالمين.

جربنا في حياتنا توديع المسافرين من بلد إلى بلد، عند باب المنزل، أو عند صالة المطار، ومررنا عند تلك اللحظة بمشاعر مختلفة من الحزن والفرح، وفي الغالب الدموع تكون حاضرة غير غائبة، أما التوديع من دنيا إلى آخرة فأمره من المؤكد مختلف.. توديع الموت فيه هيبة، وفيه عبرة، وفيه غير ذلك من مشاعر.. إنه الواعظ، و"كفى بالموت واعظا".

الإسلام اهتم ـ فيما اهتم ـ بقضية الموت، وظهر ذلك من خلال ورود كلمة الموت ومشتقاتها في القرآن الكريم 165 مرة. مسألة الموت ترددت على الناس في كتاب ربهم لتذكرهم بالاستعداد للرحلة الحتمية، وتنبههم إلى أن الحياة الدينا ليست بدار إقامة، وأنه (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، وأن الرابح الأكبر هو من وفقه الله إلى الاستقامة هنا ليرتاح هناك، (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور).

فلسفة الموت فلسفة عبر عنها العالم الكردي بديع الزمان نور الدين النورسي، أحد أبرز علماء الإصلاح الديني والاجتماعي في عصره، إذ ذكر في (كليات رسائل النور) أن قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، يدل على أن الموت مخلوق، وأنه نعمة كالحياة، مع أنه في الظاهر انحلال، وعدم، وتفسخ، وانطفاء حياة، وهادم لذات ـ ثم ذكر ـ أن الموت في حقيقته تسريح، وإنهاء لوظيفة الحياة الدنيا، وهو تبديل مكان، وتحويل وجود، وهو دعوة إلى الحياة الباقية الخالدة، ومقدمة لها؛ إذ كما أن مجيء الحياة إلى الدنيا هو بخلق وبتقدير إلهي، كذلك ذهابها من الدنيا أيضاً بخلق وتقدير وحكمة وتدبير إلهي". تحليل الشيخ النورسي ذو أهمية بالغة لدارسي العقيدة والمفسرين على حد سواء، وأهميته تكمن في تقريبه بجلاء ودون تأويلات بعيدة وجودية الموت، وهذا أمر طالما كان صعبا. واستطاع ـ النورسي ـ أن يعطي صورة غير مرعبة عن الموت لأن الموت بهذا ليس فناء، ولا اضمحلالاً، وإنما مجرد تحول ونقلة إلى الأكمل والأشرف، وإعلان عن بقاء الإنسان واتصال حياته الأخرى بالأولى، ورفض لفلسفة العدم والإلغاء والتشاؤم التي أشاعتها الفلسفات المادية التي حصرت حياة الإنسان في دنياه، وصورت له الموت نهاية ودمارا. استطردت قليلا في قضية الموت لعلي أخفف بذلك من حدة الخطب والمواعظ التي أمرضت الناس، وأوصلتهم إلى اليأس، وربما إلى ترك الواجب.. التخويف المباح من الموت هو التخويف (المحدود)، وهو الذي لا يؤثر على وظائف الإنسان وسعادته بصورة سلبية، فالموت (محطة)، وليس (قفلة).

خاتمة:

ثمانيةٌ لا بد منها على الفتى

ولا بد أن تجري عليه الثمانية

سرورٌ وهمٌ، واجتماعٌ وفرقةٌ

وعسرٌ ويسرٌ، ثم سقمٌ وعافية