من المستحيل أن تجد أحداً ما لا يطمح أن يكون أكثر ذكاء، حتى لو كان هذا الشخص عبقرياً، أو حتى على الأقل ذكياً حسب معايير قياس الذكاء IQ. وهي الأمنية التي دأب مختلف العلماء المتقدمين والمتأخرين على العمل من أجل تحقيقها بشتى الطرق والأفكار؛ مما جعل العلوم العصبية تصنف مؤخراً ضمن أكثر العلوم الطبيعية تقدماً خلال السنوات الأخيرة الماضية، وساعد على ذلك ظهور نتائج مشجعة تؤكد إمكانية زيادة سرعة وقدرة دماغ الإنسان بشكل علمي ومنهجي محدد.
ولكن يبرز هنا سؤال فلسفي محيّر: هل نحن على استعداد تام لتحمل تبعات هذا الذكاء الإضافي؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن أن نعيش في عالمٍ الجميع فيه أذكياء؟ أو في عالم أسوأ من ذلك حينما يصبح الذكاء ميزة إضافية وعلامة اجتماعية يستطيع الحصول عليها فقط من يقدر على دفع تكلفتها! قد يبدو الوقت متأخراً للإجابة عن أسئلة كهذه، ذلك أن المجتمع المتحضر اتخذ قراره بالفعل بتقبل ثم تبني الآليات الحديثة لصقل ذكائنا عبر الوسائل الصناعية! أو تلك التي يطلق عليها بعض العلماء: "Cosmetic Neurology"، وكأنما هي إضافات جديدة إلى جهازنا العصبي المتقدم أصلاً، مثل ما يقوم به بعض طلاب المدارس والجامعات من تناول الأدوية والمكملات التي تزيد من شدة تركيز الجهاز العصبي، أو بعض أفراد المجتمع الذين يعتمدون في ظهورهم الطبيعي أمام الآخرين على مختلف أنواع الأدوية المضادة للاكتئاب وغيرها، بينما رجال الأعمال يعيشون حياتهم على الأدوية المعالجة للقلق والضغط النفسي، هذا لمن يختصر طريقه عبر المستحضرات الصيدلانية، بينما البعض الآخر قد يعتمد خيارات أخرى أكثر سلامة وبساطة؛ تقدمها كتب "تحسين الذات" التي تغص بها المكتبات، وتعرض آخر استراتيجيات العلوم العصبية لمساعدة الجمهور على التفكير السريع والحاد، دون إغفال الجيل الجديد من أجهزة الهواتف المتنقلة، التي أصبحت تسمى بالذكيّة، وتتزايد أهميتها يوماً بعد يوم في حياتنا، بالإضافة إلى المارد الأهم: شبكة الإنترنت، التي لا يمكن أن نتصور - جميعاً- أن نعيش يوماً ذكياً واحداً بدونها!
بالطبع ما سبق يدخل ضمن الإكسسورات العصبية، التي ترتبط بمدى قدرتنا على الاستفادة منها بشكل أو بآخر، ولكن ماذا لو أضحت هذه الإكسسورات جزءاً حقيقياً من أجسادنا! وهو بالمناسبة أحدث ما توصل إليه العلم في طرق تعزيز الذكاء الفردي، إحدى تلكم الوسائل هي: "التحفيز الكهربائي عبر الجمجمة TDCS"، الذي يتم عبر وصل قطب كهربائي سالب على فروة الرأس يقوم بتوصيل "أمبيرات" كهربائية ضئيلة، هذه الشحنات القليلة تؤدي إلى تعديلات تدريجية في كهرباء أغشية الخلايا العصبية القريبة من القطب الكهربائي، مما ينتج تغيرات قابلة للقياس في الذاكرة، والمهارات اللغوية، والمزاج، والوظائف الحركية، والمجالات المعرفية الأخرى. المشكلة هنا أن العلماء لا يزالون غير متأكدين من قدرة هذه الطريقة على إحداث تغيّر عصبي طويل الأمد، لأنها لا تزال أسيرة التأثير قصيرة الأمد، بينما المثير في الأمر أن استطلاعاً علمياً على شبكة الإنترنت شمل عدداً كبيراً من الشباب؛ أكد فيه 87% منهم رغبتهم في الخضوع للتحفيز الكهربائي عبر قشرة الدماغ إذا كان سوف يعزز من قدراتهم الشخصية سواء في الدراسة أو العمل! شرط توفر قدر أدنى من الأمان.
السؤال هنا وعلى الرغم من تحفظات بعض علماء الأعصاب والدماغ على مدى فعالية وأمان مثل هذه الآليات المبتكرة؛ هل يجب علينا أن نرحب بمثل هذه الفرص الجديدة لنصبح نسخة محسّنة من ذواتنا أكثر ذكاء وأسرع بديهة وأفضل في كل شيء؟ أم أن مسار قطار العلم ماضٍ في طريقه ولا يمكن أن يوقفه أحد، كما يحدث حالياً في التطور المتسارع في تقنيات الاستنساخ أو تطبيقات شفرات الحمض النووي، بيد أن المخاوف الحقيقية التي يمكن أن تنتج مع تطور مثل هذه التقنيات وما يعمل عليه بصمت في مراكز البحوث السرية بالدول المتقدمة هو الخوف من قصرها في البداية على فئة دون أخرى، خصوصاً ذوي النفوذ والمال، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء طبقتين اثنتين من البشر في مجتمع واحد، أحدهما ذكي خارق، والثاني متوسط الذكاء، مما ينذر بتكون صراع اجتماعي/ ثقافي في المجتمع ولو بعد حين، والأخطر من ذلك أن تستعمل مثل هذه التقنيات لتكون سلاح موجة جديدة من الاستعمار، حينما تتحول شعوب الأرض إلى فئتين لا ثالث لهما، وهو ما عبّرت عنه روايات "الخيال العلمي" منذ زمن طويل.
لكن الأكثر إثارة هنا؛ هو حديث العلماء عن الخوف من تطوّر استخدام هذه القدرات ليس فقط في تطوير الذكاء البشري، بل تحولها إلى وسيلة للسيطرة على العقول، من خلال التلاعب بالشحنات الكهربائية للدماغ، مما قد يسمح للمتلاعب من إعادة "تشبيك" شبكة كهربائية جديدة في دماغ الإنسان، وبالتالي القدرة على تغيير مبادئه ومعتقداته وخبراته المعرفية، ويجعل الطريق سالكة للسيطرة عليه وتوجيهه نحو مصالح محددة! مما يطرح معضلة اجتماعية عن مدى "أخلاقية" هذا التلاعب العقلي في حالة كان التأثير إيجابياً، كما في حالة تعزيز مهارات الفهم والاستنتاج لدى طلاب المدراس، أو حتى مهارات القتال والمناورة لدى قوات حفظ الأمن، فماذا عن الجانب السلبي من خلال زرع قيم ومبادىء جديدة على مجتمع ما، أو محاولة فرض تقبل لواقع حالي أو مستقبلي على أفراد لا يؤمنون به!
ولكن وبعيداً عن كل هذا النقاش والتجاذبات الأخلاقية؛ لنعد إلى واقعنا هنا في العالم العربي ونحن نرى العالم من حولنا يتطور ويتقدم، والكل يعمل جهده لحجز موقعه المتقدم ضمن ركب سباق الذكاء، بينما نحن ننتظر ونتفرج دون أدنى اهتمام! وكأنما لسنا من سكان هذا الكوكب، ولكن يبدو أننا رضينا -وبكل قناعة وهدوء- أن نكون من شعوب النوع الثاني منذ الآن، والله المستعان.