كان أول تكريم مجتمعي للدكتور غازي القصيبي بعد وفاته أُدعى إليه وأشارك فيه، هذا إذا استثنينا ذلك الفيض الكبير من المقالات التي احتفت به وأبّنته على صفحات الصحف وفي المنتديات الإلكترونية؛ كانت تلك الأمسية الرائعة التي خصصها مقهى ومكتبة "جسور" في مدينة جدة لذكرى الراحل الكبير مساء السبت 18 رمضان، وحضرها حشد من محبي الفقيد والمهتمين بأدبه وفكره. والجميل في تلك الأمسية هو حضور أغلبية من الشباب والشابات ممن لم تجمعهم بالدكتور القصيبي غير آثاره الإبداعية الخالدة وإسهاماته الفكرية العديدة.

وأذكر من باب المفارقة ليس إلا، وليس من باب المقارنة لا سمح الله، ما تردد من أن واحداً من الأندية الأدبية العريقة كان قد ألغى في الوقت نفسه أمسية تكريما للراحل غازي القصيبي كان يعتزم إقامتها لأن النادي، حسب ما تردد، لم يحصل على "الإذن" بذلك!

تذكرني هذه المفارقة كثيراً بحكمة صينية على شكل أقصوصة طريفة. تقول الأقصوصة إن رجلاً أتى في طريق ترحاله على جسر صغير فوق جدول ماء رقراق، وكان يجلس على طرف الجسر شيخ كبير يتأمل صفحة الماء المتلألئة تحت أشعة الشمس الذهبية وقد ألقى عصاه وصرة ملابسه بجانبه دونما اكتراث. اقترب الرجل من الشيخ محيياً وقال: أتأذن لي أيها الشيخ الجليل بعبور الجسر؟ مرت برهة صْمت قبل أن يرفع الشيخ الوقور رأسه نحو الرجل ويرد بحزم: لا يا بني! بغت الرجل من هذه الإجابة المفاجئة ولم يحر جواباً؛ تردّد بعض الشيء ثم استجمع شجاعته فيما يشبه الاحتجاج المؤدب وقال بصوت تعلوه نبرة استحياء: ولكن يا سيدي.. لقد مر رجل آخر منذ لحظات على هذا الجسر ولم تمنعه من العبور! علت وجه الشيخ الوقور مسحة تأمل أكثر عمقاً.. سكت برهة أخرى ثم قال للسائل بهدوء وحكمة: ولكن ذلك الرجل لم يسألني الإذن يا بني!

وإذا ما صح خبر إلغاء النادي الأدبي لحفل تكريم القصيبي، أو حتى مجرد تأجيله، فحري بذلك النادي العتيد بشيوخه وشبانه، وجهابذته ومريديه أن يعودوا إلى تلك الأقصوصة الجميلة، البالغة الحكمة والعمق، ليدركوا أن الشمس في مطلعها لا تنتظر إذناً، وأن الوردة في تفتحها لا تنتظر إذناً، وأن العصفور عندما يشقشق فتطرب له أسماعنا وتنتشي له أرواحنا لا ينتظر إذناً، وأن حركة المجتمع سرمدية لا تنتظر هي الأخرى إذناً.

إن ما يميز المجتمعات الحية عن سواها هو روح المبادرة الخلاقة التي تتجذر في عمق بنيته أفراداً ومؤسسات.. وما يدفع المجتمعات الناهضة قدماً في سلم الرقي الحضاري هو تلك الروح الإنسانية المتأجّجة التي تسعى دوماً إلى التجديد والبناء والإبداع. ولقد كانت هذه الروح المبادرة الخلاّقة حاضرة بقوة في تلك الأمسية الجميلة بروح جسّدها شباب وشابات لم يتجاوزوا العقد الثالث من العمر.. استحضروا القصيبي روحاً وإبداعاً، فكراً وإدارة في صورة بانورامية شاملة برغم محدودية الإمكانات. حضرت كتب القصيبي "المسموحة" كما حضرت كتبه التي "فسحت" مؤخراً ثم تقاطرت الكلمات كالندى تذكّر بأديبنا الكبير و بتجاربنا الإنسانية معه.

فتَحيّة من الأعماق للشباب الذين استثمروا المناسبة في وقتها وبعفويتها. تحية للشباب الذين أبدعوا فكرة مقهى ومكتبة "جسور" للتواصل الثقافي الحي وميزوها عن غيرها وجعلوا من الثقافة جسراً ديناميكياً لاستثمار الوقت وخلقوا فرصاً للعمل الذي لم ينتظروا فرصه الشحيحة تنزل عليهم من السماء فبادروا في استثمار الجهد والمال في الجاد والمفيد من خلال هذا المقهى الثقافي. وتحية لهم لهذا السبق الجميل الرائد وفاءً للراحل غازي القصيبي.‏

بمناسبة عيد الفطر المبارك كل عام وأنتم بخير، وكل عام وأعيادنا تحتفي بروادها الأحياء منهم والماضين.