طرأ ظرف عاجل للغاية فاتجهت إلى محطة القطار السريع في مدينة أبها والتي أدهشتني بما رأيته فيها من فن معماري وتصاميم في غاية الروعة. حيث احتوت على صالات للمسافرين ومكاتب ومحلات تجارية ومقاهٍ ومطاعم، وبها موقف تاكسي وباصات خاصة بالنقل الداخلي حيث لا يمر “قطار الوطن”! دخلت المحطة وأنا رافع الرأس فخور بهذا الإنجاز الوطني، وأخذت دوري في الحصول على تذاكر السفر بعد أن متعت نظري بالاطلاع على لوحة الرحلات للمغادرة والوصول والمجدولة بالثانية إلى جميع مدن المملكة ومحافظاتها ومنافذها الخارجية.
أخذت تذكرة السفر من موظفة سعودية محجبة، ما أن سلمتني التذكرة حتى تمنت لي رحلة سعيدة. دخلت صالة المسافرين لأجد العسكري والطالب والموظف والمريض والسائح والمعتمر والمتسوق والكبير في السن والأطفال، حتى جدتي المقعدة التي حلمت أن تركب في القطار قبل أن تموت بعد ما رأته في الأفلام في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا والدول المستقلة حديثا. أعلن موعد الرحلة لنتجه جميعا إلى القطار لينطلق بنا وهو يشق القرى والمزارع والجبال والأودية والواحات والصحاري والسهول، ويعرفنا على الوطن شبرا شبرا، في أجمل درس في التربية الوطنية والمواطنة. لم تستغرق رحلتنا من أبها إلى جدة سوى ساعتين، بينما المسافة إلى الرياض العاصمة يقطعها “قطار الوطن” السريع في ثلاث ساعات. وصلنا إلى المحطة الرئيسية "بوابة الوطن" إلى الأماكن المقدسة، لأرى أهم محطة قطار وأجملها في حياتي، والتي لن أجد الكلمات لوصفها سوى أنها من عجائب الدنيا.
القطارات تصل من كل مكان، منها التجارية والدولية والداخلية في أدق وأجمل تنظيم. إنها مدينة القطارات وليست محطة في بلد هو المركز للعالم الإسلامي، على طول الخارطة الكونية. لم أصدق ما رأيت فسقط الدمع من عيني فرحا وإعجابا وإكبارا لما وصل إليه وطننا من تقدم وازدهار وتطور ونظام. هنا عرفت قيمة الوطن وأسباب الولاء والانتماء والحب لكل ذرة تراب في وطننا.
المعتمرون والقادمون والسياح والمضطرون وأصحاب الحاجات والتجار وكل أبناء الوطن كانوا معي في "“قطار الوطن”"، والكل مسرور وسعيد وهو يجد هذا التقدير، وهذا الاحترام وقد رفعت عنهم المعاناة والمشقة. ركبنا جميعا في “قطار الوطن” . وهل تعرفون ما هو “قطار الوطن”؟ هو الجهاز العصبي الذي يربط جميع أجزاء الوطن ذرة ذرة. هذا العصب الذي إذا ضعف أو انقطع من أي ذرة أو عضو أو جزء أو شبر من جسم الوطن الذي يجمعنا جميعا، فإنه يتعرض للشلل ويصبح مؤهلا لدخول العلل والأمراض والفيروسات والبكتيريا، والتي تتحول إلى كائنات معادية ومعدية، لكل ما حولها حتى يعتل الجسم ويمرض ليدخل في حالة أخرى تحتاج للعلاج المكلف للغاية، والتدخل الجراحي وأحيانا تؤدي إلى قصص أخرى. ثم صحوت وأنا لا أريد أن أصدق أنه مجرد حلم، واتصلت بالمؤسسة العامة للسكك الحديدية وسألتهم ماذا حصل للقطار السريع الذي رأيته في عسير؟ فقالوا أنت تحلم! فليس هناك قطار في عسير. ثم اتصلت ببعض الوعاظ ومفسري الأحلام لتفسير حلمي فقالوا لي إن مثل هذه الأحلام منهي عنها وعن تفسيرها ولا تدخل في أبواب الفقه وأحالوني للشيخ "جوجل" الذي أصبح يفتي في كل مسألة بجميع المدارس الفقهية مدعوما بالأدلة الدامغة من الكتاب والسنة، وتمنيت أن يوسف عليه السلام فسر حلمي هذا.
عرفت أنها أضغاث أحلام وأنها نتيجة معاناة شخصية، فقد أتيت قبل أسابيع من خارج المملكة مضطرا إلى مطار جدة بهدف الوصول إلى أبها وبالرغم من كل الاتصالات والواسطات والشفاعات إلا أن الحل الوحيد كان السفر إلى جازان ثم السفر برا إلى أبها لأصل في الخامسة صباحا بعد أن تأجلت الرحلة مرات ومرات. وفي طريق العودة إلى جدة حصلت ولله الحمد على مقعد أكدته مرات عديدة خشية أن يطير بدوني. وبعد الانتظار في مطار أبها من الساعة الثامنة مساء وحتى الثانية بعد منتصف الليل وصلت إلى فندقي في تمام الساعة الخامسة صباحا بعد أن تأخرت الرحلات في مطار أبها ساعات وساعات ونحن نتلقى الجرعات المسكنة من موظفي الخطوط السعودية الذين لا ذنب لهم سوى أنهم بحاجة لدورة علاقات عامة ومواجهة الجمهور وتقديم الخدمات. نسوا أن رواتبهم من عرق هؤلاء المسافرين البسطاء! منظر مؤلم، فينا الكبير في السن والمريض والحامل والمرضع والمقعد وذو الاحتياجات الخاصة والموظف والطالب والأطفال والعسكر ورجال وسيدات الأعمال والعمال وبعض النخبة. إنها حالة من الفوضى. بعضهم يدعو بدعوات مخيفة وآخر يتحسب ففي الطرف الآخر من ينتظر هذا المسافر ويتنكد هو الآخر!
قصصت قصتي لبعض أبنائنا فقالوا نتمنى أن نركب في “قطار الوطن” ونستمتع بالسفر فيه حتى ولو كان في الأحلام. وسنظل نحلم ونحلم ونحلم لنتمتع بالسفر في “قطار الوطن”. وسنظل نسافر للخارج لنتمتع بالسفر في القطارات. ونقول السياحة الوطنية والداخلية تحتاج إلى وفرة في المواصلات البرية والجوية والبحرية. وإلا فانسوا السياحة الداخلية فأنت تبدأ الرحلة في نكد وتستمر في نكد وتعود بالنكد وكأن النكد شيء مرغوب فيه وخاصة من الخطوط السعودية التي ما أن نخرج من نكد إلا نعود إليه. وهذا يذكرني بقصة الزوجة التي نكدت على زوجها واتفق معها على أن يكون هناك يوم للنكد ويوم للراحة والسعادة وفي يوم الراحة وجدها تغني وتضحك وتتمتم فسألها ماذا يفرحها؟ فقالت وهي تضحك "بكرة النكد". أين أنتم يا مجلس الشورى ويا أعضاء المجالس البلدية عن هذه القضية الوطنية؟ الله لا ينكد علينا.