تسلل إلى ذهني منظر "القمورة جنى" قريبتي الصغيرة، وهي تتحدث بحب عن مدرستها وأساتذتها والفرح يطل من عينيها الجميلتين بكل نقاء.

عاد الشريط في ذهني لسنتين خلتا أو ثلاث، حين سألتها: أعجبتك بريطانيا يا جنى؟ كان هذا السؤال كافيا ليستفز كل ما في ذاكرتها، فكان كل شيء حول صباحات المدرسة وبرنامجها الدراسي.

يخيل إليك وهي تتحدث بفرح وحب عن كتبها وفصلها الدراسي وزميلاتها وهيئة التعليم في المدرسة، أنها ترغب في أن تعود للمدرسة حالما تنهي حديثها معي. تلك الصغيرة ذات الثمانية أعوام أدهشتني بعلاقتها الممزوجة بعشق لكل جزء من أجزاء يومها في مدرستها الابتدائية وحنينها ورغبتها أن تنتهي العطلة لتغادر الرياض وتعود لبلاد الإنجليز، كل ذلك فقط لعشقها للمدرسة.

مر هذا الشريط في خيالي، وأنا أنظر إلى مقطع أرسله أحد الأصدقاء لطلبة إحدى المدارس الابتدائية في العاصمة الرياض، بعد نهاية آخر يوم في اختبارات المدرسة.

مقطع أثار استيائي، وخيبة أملي، وأشعرني بالإحباط، وربما الغضب مما آل إليه حال علاقة الطالب بمدرسته في بلادي. أكتب عن هذا لقناعتي بأن من حق الإعلامي أن يراقب أداء الوزارات ومخرجاتها السلوكية، ومنها وزارة التربية والتعليم، وإن كان المفترض أن الرقابة ذاتية، لكن ـ وكما يقال ـ فأحد أدوار الصحافة وكتاب الرأي المراقبة والمتابعة والاستقصاء كي يكون عينا للوطن والمواطن والمسؤولين أيضا، إن كان كاتب الرأي يؤمن بدوره في مسيرة التنوير والرقي بالعقل الجمعي والإصلاح.

عشرات من الطلاب يمزقون مئات الكتب، حتى تحول الشارع أمام المدرسة إلى نهر من الورق. العبارات التي يطلقها هؤلاء الأطفال تخبرك عن العلاقة غير الطبيعية بين الطالب والمدرسة. ردود أفعال الطلاب الصغار قاسية بل مفجعة وموغلة في القسوة، عدوانية تتضح من خلال قذف السيارات العابرة للطريق بالكتب الممزقة والأوراق التي تناثرت في كل مكان. تتساءل: هل هي ظاهرة جديدة من جيل جديد؟ لم نكن نفعل ذلك في زماننا بل كنا نحب المدرسة ونحترم المدرس ونحافظ على الكتاب ونحتفظ به. العبارات التي يرددها بعض الطلاب أيضا كانت شاهدا آخر، "ألعن أبو المدرسة، افتكينا، خلصنا خلااااص، شقوا مزقوا الكتب يا عيال"ـ تدل على أنهم يمزقون الملل والقهر الذي يشعرون به. يمزقون تلك الصورة لذلك المعلم وطريقة التعليم وما تحويه المدرسة. تقول إحدى الزميلات التربويات بعد مشاهدة هذا المقطع: إننا نحتاج لمناهج في تربية السلوك الفردي، بحكم أن الفرد نواة المجتمع الحضاري، وأن هذا الفرد إذا تحضر سيكون المجتمع حضاريا. حضارة اللبس، الأكل، الكلام، الاحترام، احترام الملكيات العامة والخاصة، فهل يستطيع فرد (خالد الفيصل) إعادة بناء منظومة التعليم؟ هل نحن فعلا بحاجة لإعادة ترميم الوزارة وإعادة بنائها ولا أقصد المباني الأسمنتية، ولكن تغيير العقليات التي عفى عليها الزمن وباتت خارج المستجدات؟ هل فعلا كثير من القيادات الرجالية والنسائية في وزارة التربية والتعليم هرمت فكرا وعطاء ولم يعد لديها ما تقدمه، ولهذا رأينا نتاج ذلك من خلال ردود أفعال أولئك الأطفال التي يفترض أن تدق ناقوس الخطر وتهزنا من الأعماق، لنفيق أو تفيق الوزارة من غيبوبتها المعرفية؟

ربما ـ كما يقول البعض وإن كنت لا أتفق مع قسوة العبارة ـ الوزارة تحتاج إلى تطهير من بعض العقليات دون مجاملة ولا محسوبية، تطهير مقترن بالاستفادة من العقليات الأكاديمية الشابة المتخصصة في مختلف العلوم والمعارف بالنقل المباشر أو نظام الإعارة لتأسيس منظومة تعليمية جديدة.

المقطع الذي انتشر انتشار النار في الهشيم، أفزعني وأقض مضاجع الكثيرين من المستنيرين، لكن السؤال الأهم هل أحدث ذات الأثر لدى مسؤولي الوزارة؟ الوزارة التي نأتمنها على فلذات أكبادنا وقرة أعيننا! كنت أرجو أن يتنادى الفاعلون في الوزارة والإشراف التربوي ويجتمعون بالمختصين من: علماء النفس، والاجتماع، والمهتمين بالدراسات السلوكية، وأساتذة الرأي، والإعلام، من أجل عقارات مضادة لهذا الخلل المرضي. يتزامن ذلك مع إعلان الوزارة عن الدعم السخي من القائد الوالد "أبو متعب" ـ يحفظه الله ـ بمبلغ ثمانين مليارا من الريالات لتطوير التعليم، فهل ستنقل تلك المليارات التعليم العام نقلة نوعية يجني الوطن وأجياله القادمة من البنين والبنات نفعها وخيرها؟ أم أن التطوير ليس بالمبالغ المالية فقط، كما يعتقد البعض، ولكن في تغيير آلية العمل وجذب الطالب للبيئة المدرسية وإشراك المجتمع والبيت في صنع القرار وتنفيذه؟ الإعلام رسالة والقلم أمانة والكاتب ضمير الأمة ونتاج يراعه مرآة للمجتمع أو هكذا يفترض، لذلك كله يجب أن نقول بصراحة: أيها الأفاضل في وزارة التعليم، إن التربية والتعليم في خطر وخطر داهم محدق، وها هي النواقيس تدق بأصابع أولئك البراعم الذين كانوا ـ فقط ـ يعبرون عما في دواخلهم، حين حولوا الشارع إلى بحر من أوراق كتب وزارة التربية والتعليم الممزقة. فهل وصلت الرسالة؟ أرجو ذلك. وحتى نرى ردود أفعال الوزارة نقف هنا أحبتي وأترككم في رعاية الله، وكل جمعة نلتقي لنرتقي عبر "الوطن".