فوجئت عندما وصلت للبائع بعد انتظار ممض في أحد المحلات التجارية بالظهران بشخص يأتي من الخلف ويتجاوزني دون استئذان. فرش أغراضه أمام البائع غير عابئ بالطابور ومن يقطنه. قلت له بأدب جم وهدوء: "لو سمحت احترم الطابور وعد إلى الخلف. إنه دوري". ابتسم بمكر، ثم قال بصوت مؤذ: "أنا مشغول وليس بوسعي الانتظار". فأجبته :"وأنا مشغول أيضا". اعتقدت أن إجابتي الأخيرة ستنهي هذا النقاش وسيعتذر مني ومن البقية ويمنحني مكاني الذي سلبه. لكن توقعي لم يكن في محله. فقد رد بلهجة تصعيد وتحد قائلا: "لن أتحرك من هنا. ولن يقتلعني أحد من هذا المكان حيا. أرني ماذا ستفعل؟". قبل أن أنبس ببنت شفة رأيت البائع يمرر أغراضه على الجهاز ويبتسم في وجهنا قائلا: "تعوذا من الشيطان. إننا في رمضان".

لم تكن هذه المرة الأولى التي أتعرض لمثل هذا الموقف. فقبلها بأيام وأنا في طريقي إلى البحرين تعرضت لموقف مشابه. اعترضتني سيارة وأنا في طريقي إلى كابينة الجوازات. جاءت من الخلف دون أدنى تقدير للنظام وطابور السيارات الطويل والضجر الذي يعلو الوجوه. كدت سأدع السيارة تمر كما مرت عشرات غيرها أمامي. بيد أنني رأيت أنه يجب أن أسجل موقفا لاسيما وأن السائق لم يرفع يده مستئذنا أو حتى مبتسما. هبطت من سيارتي وتوجهت إلى سيارته راجلا. طرقت نافذته ليفتحها. لكنه لم يفعل. فتحها لاحقا إثر إلحاح زوجته التي كانت تتوسله أن يفعل. قال لي بعد أن فتح نافذته قليلا كأنني متسول ينتظره خارج سيارته: "ماذا تريد؟". أجبته: "أريد مكاني الذي سرقته". ضحك ثم قال متهكما: "ارفع عليّ قضية!". رددت عليه قائلا: "لن أرفع قضية ولا حتى صوتي. فقط أحببت أن أقول لك إنك أخطأت في حقي وغيري ويجب أن تعتذر". انصرفت بعد أن اعتذر بتقشف وبرود.

ولا أنسى الموقف الذي رواه لي أحد ذوي الاحتياجات الخاصة في الرياض. وذلك عندما استولى أحد زوار المستشفى على موقف سيارته أمام الباب الرئيسي. فحينما سأل ذو الاحتياجات الخاصة السائق أن يغادر الموقف بلطف. رد عليه الشاب برعونة قائلا: "انتظر دقيقتين. سأذهب لزيارة قريب بسرعة وأعود. لن يضرك شيئا لو انتظرتني قليلا".

إن هذه التصرفات التي نقترفها تجاه بعضنا وغيرنا تجسد وجود خلل كبير في سلوكياتنا. وتعكس حجم الخطر الذي يحدق بنا ويتربص بمستقبلنا. فالمواقف الصغيرة التي نتعرض لها في الشارع تعبر عن حجم المأساة التي نعيشها. فالشخص الذي يسطو على مكان ابن جلدته في الطابور في وضح النهار قطعا سيسطو على ماله وممتلكاته في الظلام. إذا لم نبدأ في ترميم سلوكياتنا ستتحول كل مشاريعنا النهضوية إلى أوهام وسراب. فكما قال سقراط: "الأخلاق أهم للإنسان من خبزه وثوبه". وقد حذرنا الشاعرأحمد شوقي قائلا:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم

فأقم عليهم مأتما وعويلا

ونحن لا نريد إقامة مآتم وسرادق عزاء بل أعيادا واحتفالات نطرزها بإنجازات وانتصارات. لكن هذا لن يتحقق ونحن نرتكب هذه السلوكيات والممارسات التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي بدورها تغتال أي سعادة وتجفف أي حلم.

ثمة مسؤولية اجتماعية يفرضها علينا ديننا وإحساسنا بالمواطنة تتطلب تغييرا جذريا في تصرفاتنا وسلوكياتنا. وأن نقوم بتسجيل موقف تجاه أي مبادرة سلبية. فلا نسمح بمرور أي مخالفة إنسانية أمام أبصارنا دون أن نسجل احتجاجنا وضيقنا وشجبنا واستنكارنا. تهاوننا وسلبيتنا تجاه ما يجري حولنا ساهم في تفاقم السلوكيات والممارسات الخاطئة التي تحاصرنا.

عندما نغادر وطننا ونشاهد شخصا قطع إشارة أو رمى على قارعة الطريق سيجارة سنتوقع فورا أنه سعودي؛ لأنه ارتبط بالمخالفات والتجاوزات. لم لا يصير العكس. يصبح السعودي عنوانا للسلوك الحضاري. لن ننال طموحاتنا بالتمني. علينا أن نبدأ. أن نبدأ من اليوم إذا أردنا أن نضرب المثل يوما ما بالأخلاق السعودية.