يحظى موضوع الانتظام في الحضور والانصراف في الدوام بأهمية خاصة لدى الجهات الحكومية، ويعد المعيار الحقيقي لقياس أداء الموظفين، بغض النظر عن إنتاجيتهم في العمل، لذا يرى كثير من المسؤولين "أن تطبيق البصمة.. في جميع الجهات الحكومية وغير الحكومية تستطيع القضاء على مشاكل الحضور والانصراف، وتمكن من تحقيق الضبط الإداري للجميع، وتحقيق مزيد من العدل، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وخفض التكاليف، وتبسيط الإجراءات والقضاء على الواسطة والمحسوبية".
ولقد بدأت الكثير من الوزارات والأجهزة الحكومية باستخدام نظام البصمة الإلكترونية لإثبات حضور وانصراف الموظفين في دوامهم الرسمي، وبعد مرور فترة زمنية على هذه التجربة، فإني أتساءل: هل تمكنت البصمة من الحد والتقليل من عدم الانضباط والتسيب؟، وهل بالفعل زادت إنتاجية الموظفين؟، أم أن العكس هو الصحيح؟
من خلال تتبعي لآراء الموظفين في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، وكذلك من خلال التجربة العملية لتطبيق البصمة، اتضح وجود تلاعب وتحايل على هذا النظام، سواء من الموظفين أنفسهم أو من الإدارات المسؤولة عن النظام.
فهناك من الموظفين من يحضر في بداية الدوام في الصباح الباكر للتوقيع على البصمة، ثم يذهب إلى منزله للنوم أو لقضاء حوائجه الخاصة، ثم يعود في نهاية الدوام لتوقيع الخروج، وبالتالي لا يستطيع المدير الإداري معرفة حضور أو انصراف الموظف حتى وإن أثبت عدم وجوده في العمل، فلا يمكن الحسم من راتبه، فالموظف وفق النظام مثبت حضوره وانصرافه.
والطريف في الأمر، أن بعض الجهات الحكومية اعتقدت أنها أكثر ذكاء، فوضعت حواجز وبوابات آلية، لا تفتح إلا بالتوقيع على البصمة سواء بالدخول أو بالخروج، ومع ذلك استطاع الموظفون الخروج من منافذ أخرى في هذه الجهات، ونتيجة لذلك تم التعاقد مع شركات لتوريد وتركيب كاميرات مراقبة على هذه المنافذ، ومع ذلك استطاع الموظفون أيضا التحايل على هذه الكاميرات، ويبدو أن البعض سوف يقترح في المستقبل وضع أساور تعقب في أيدي أو أرجل الموظفين؛ حتى لا يستطيعوا الهرب، ويستمر المسلسل على هذا المنوال.
أما بالنسبة لكبار الموظفين في الإدارات العليا، فالبعض قد تم استثناؤه من البصمة نهائيا، مع أن النظام لم يستثن حتى الوزير من إثبات حضوره وانصرافه بالبصمة، والبعض الآخر فقد تم الاتفاق مع الشركة المشغلة للنظام بإعطائه كودا معينا يثبت حضوره وانصرافه في أي وقت شاء على أنه حضر وانصرف في الوقت المحدد!، كما أن هناك طريقة أخرى تتعلق بإمكانية التعديل دون وجود ضوابط رقابية، بحيث يتم حذف أوقات التأخير أو أيام الغياب من النظام بشرط أن يكون الموظف من المقربين للرئيس أو المدير الإداري أو المسؤول عن نظام البصمة!.
وليس هذا فحسب، بل أصبح نظام البصمة سلاحا يستخدم بيد الرئيس الإداري في مواجهة خصومه، إذ يستطيع إيقاف البصمة على هذا الموظف، أو عدم إدخال أيام الإجازات الرسمية و أوقات الاستئذان في النظام، وبالتالي يتم التسجيل أيام غياب وتأخير على هذا الموظف ليتم الضغط عليه ومساومته فيما بعد، فمن يثبت حضوره أو استئذاناته، فالنظام لا يكذب؟!
إضافة إلى ما سبق، هناك إشكالات أخرى تتعلق بنظام البصمة، تتمثل في وجود تفاوت بين الجهات الحكومية في عملية التطبيق؛ بسبب غموض وقت الدوام الرسمي في نظام الخدمة المدنية، فبعض الجهات أخذت في الحسبان مسألة الازدحام المروري، وعدم وجود مواقف للسيارات وصعوبة الوصول إلى مقار العمل، إضافة إلى التزامات الموظف كرب أسرة، مثل إيصال الأولاد إلى المدارس، والزوجة إلى العمل، ومراجعة المستشفيات ونحوها، فوضعت نظاما مرنا للحضور والانصراف في نظام البصمة يتوافق مع هذه الظروف، فعلى سبيل المثال يعطى الموظف عدد "6" ساعات متاحة للتأخر في الشهر الواحد، أو إمكانية تعويض ساعات العمل بما يوازي هذا التأخر.
أما البعض الآخر من تلك الجهات فقد استغلت تلك الظروف في التشديد على صغار الموظفين، وتطبيق النظام المرن على كبار الموظفين فقط!، فمن يتأخر دقيقة واحدة عن الساعة الثامنة صباحا يتم احتساب "31" دقيقة تأخير عليه، ولا مجال للتعويض.
فبعض الرؤساء والمديرين يحرصون كل الحرص على إصدار التعاميم والتعليمات والتوجيهات التي تلزم الموظفين بالانضباط في الحضور والانصراف، ويحرصون أشد الحرص على الالتزام بذلك، فيقومون بالرفع بالموظفين المتأخرين والمتخلفين عن الدوام، والحسم من رواتبهم، ومع ذلك تجد هؤلاء الرؤساء أبعد ما يكونون عن الانضباط في الدوام، فهناك فجوة كبيرة بين تعليماتهم وبين سلوكهم الإداري، وكما يقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله.. عار عليك إذا فعلت عظيم
فمشكلة الجهات الحكومية ليست في عدم انضباط حضور وانصراف الموظفين، وليست المشكلة في نظام البصمة الإلكترونية، أو في النظام التقليدي، فكما رأينا آنفا فقد زادت إشكالات الحضور أكثر من السابق في ظل النظام الجديد، ولو كان الرؤساء يمثلون القدوة الحسنة للموظفين في هذه المسألة، لوجدنا الالتزام على أرض الواقع، فلو حضر الرئيس على سبيل المثال الساعة الثامنة صباحا، لوجدت مساعديه حاضرين قبله بنصف ساعة، وكذلك لباقي الموظفين، وقد تضمنت المادة "5" من نظام تأديب الموظفين الصادر في عام 1391 قواعد عامة لتنظيم حضور الموظفين وانصرافهم، وعلى أن الرؤساء والمشرفين هم القدوة الحسنة في ذلك، ولكن بعض الجهات الحكومية ركزت على متابعة الدوام، ومجازاة من يرتكب مخالفة في ذلك، ولكنها في نفس الوقت نسيت مسألة القدوة الحسنة!.
إن المشكلة الحقيقية تتمثل في بيئة العمل والإدارة والرقابة على الإنتاجية، فنحن بحاجة إلى انضباط حر وواع ومسؤول، وليس فقط انضباطا وفق الأنظمة والقوانين، فربما تستطيع الإدارة الحكومية، إجبار موظفيها على الانضباط، ولكنها لن تستطيع إجبارهم على الإنتاجية، وهنا تكمن المشكلة!.