مختلف تجاربنا السابقة مع الديموقراطيات الناشئة في الوطن العربي، لم تمنحنا فرصة الاختلاف حول الأوفر حظا في منافساتها الانتخابية.

مرت عشرات الاستحقاقات البرلمانية والرئاسية، واقتطعت مجتمعاتنا الفقيرة كلفة التمحك بالعصر على حساب الحد الأدنى من أسباب التنمية البشرية، وكان علينا عمل كل ذلك لتأمين مساحة من ضوضاء ترفيه يحتاجها الغرب لتسويق نفاقه السياسي في صناعة النظم، وتنصيب الوكلاء، وتدوير حركة وطغيان الرأسمال العالمي.

لم تعطنا صناديق الاقتراع ماء نقيا، ولا تعليما محترما، ولم نتبين موقع صندوق الاقتراع داخل عربات الإسعاف الخالية من الأكسجين.

هل هذا ما يحدث في مصر مجددا لتستغرقنا الفعاليات الانتخابية في التجديف الفراغي مع التسليم بماهية النتيجة المعلومة سلفا؟.

أهي واحدة من فرقعات التمحك ومحاولات إظهار مجتمعاتنا المتخلفة على غير حقيقتها؟.

لماذا لا يكون عبدالفتاح السيسي واحدا من أولئك الحكام المدججين بالشعارات الاستهلاكية الديموقراطية؟ ولماذا لا نحتسبه إضافة جديدة على قائمة الرؤساء العرب المسؤولين عن تحويل الصبغة المطبوعة على إبهام الناخب إلى عقوبات تقوض فرص السعادة الجماعية، وتغمر نباهتنا بفائض صراع الحملات الترويجية وأكوام الملصقات المخصصة لإغراق الذائقة الجمالية.

كان بوسع لفيف من دعاة المدنية المعترضين على خلفية السيسي القادم من صدارة المؤسسة العسكرية، تقديم رؤية نقدية عميقة تستكشف نموذجا مقبولا لديموقراطية حقيقية، تنتج متغيرات ثقافية واجتماعية وسياسية، تتسق مع قوانين التطور التاريخي، وتعالج الخلل في وظائف ومفاهيم وعلاقات البنى الاجتماعية، لكنهم علقوا بقشرة الحدث اليومي لتغدو بدلة الجنرال ضمن تجاذبات عبثية لا تميز بين دور المؤسسة العسكرية في حماية الوطن، ونزولها عند إرادة الشعب كما فعل السيسي، وبين الصورة الذهنية لممارسات الدولة البوليسية وسلطة الاستبداد على عهد الحكام الذين خلعتهم الانتفاضات الشعبية 2011.

ثمة مرشحان يتنافسان على معنى الدولة.. كلاهما قدم طروحاته النظرية بشأنها.. حسنا، ليس هذا ما يشغلنا الآن، ولكن أيهما أقدر على تحقيق وعدها!، أقصد دورها الضامن استقرار مصر الداخلي، وتحدي الخلاص من التزامات الإخوان لإحلال مشروع الشرق أوسط الجديد؟

أيهما يمكننا اعتباره خط الدفاع الأول عن الأمة العربية المهددة بالتمزق والضياع، والمفجوعة بجاهزيات القوى الظلامية للتفريط والاستخذاء، مقابل وهم الخلافة ومرجعيات التدحرج إلى قاع التاريخ بحثا عن قرقوش القائمقام؟!

المغردون خارج سرب التحديات التاريخية المعاصرة، ينطلقون من تصور انطوائي محدود ـ يخدم بقصد أو دونه تلك الجحور ـ ولم يخطر على بالهم شيء يخص الهوية، أو يتصل بموضوعات السيادة، ولا يشغلهم دور مصر القومي والإسلامي والعالمي.

لست تدري وشعار الدولة المدنية يرتفع كما ارتفعت المصاحف يوم السقيفة، كيف تقنع بعض الشباب المندفع بسلبية الانجراف وراء الشعارات المجردة؟!

هم أنقياء بما فيه الكفاية، وما تزال تتلبسهم دوغما الشعارات المجردة، حتى وإن كان مثالها تجربتهم المريرة مع محمد مرسي، بوصفه مدنيا وميليشياته "إسلامية"!.

كل ما أنجزه هؤلاء الفتية الطيبون إرغام السيسي على صياغة مشروعه المدني بما يشبه الثوب السوداني الفضفاض، دون تبصر كاف بانعكاسات تلك الصياغة على أولوياته المستقبلية، وبطليعتها استعادة مصر من الفخ أولا، ثم التفكير في أي وضعيات الدولة المدنية تكون، فضلا عن التفاصيل البرامجية المطلبية المفترض ارتباطها بالحكومة والبرلمان القادمين.

الانتخابات المصرية أفضت إلى الحديث عن كل تمنيات وأحلام المصريين في المدنية والرفاه والتنمية والإدارة.. هذا حقهم المشروع والعادل، بل هو ما يتمناه أشقاؤهم في أرجاء المعمورة، ولا غرو أن طروحات الرجل كشفت في معظمها عن وعود مدروسة يمكن الاطمئنان لإمكانية بلورتها إلى انتقالات نوعية في حياة مصر، خاصة وأن لديه جسور علاقات متينة بأشقائه في الخليج، تؤهله لاجتياز تحدي "بارليف" التنمية، لكن إدارة المصالح العامة ليست شأنا يخص رجلا بمفرده أيا كانت قدراته.. بيد أن عاما واحدا من عمر الدولة الإخوانية أنجز من الوعود والتعهدات الخارجية ما يعادل تاريخ الكنانة ورصيدها الكفاحي من أجل الحرية والاستقلال.

تفوق مرسي على التجربة الإخوانية السودانية، وبصم بالعشرة على خارطة البنتاجون بتقسيم مصر إلى أربع دويلات، أولاها: تخضع للنفوذ الإسرائيلي على سيناء والدلتا تجسيدا للحلم السامي "من النيل إلى الفرات"، والثانية: ذات هوية مسيحية عاصمتها الإسكندرية تبدأ مساحتها من بني سويف حتى جنوب أسيوط، وتتسع غربا لتضم الفيوم وصولا نحو خط الصحراء ووادي النطرون الساحلية إلى مرسى مطروح وإلى هذه الدويلة ثمة ثالثة: عاصمتها "أسوان" متكاملة مع الأراضي الشمالية السودانية متواشجة من جنوب الصعيد إلى شمال السودان وبلاد النوبة، على حين تغدو الدويلة الرابعة: وعاصمتها قاهرة الموشحات الإسلامية خليطا من أطلال بلاد كانت يوما أم الدنيا؟

منذ سبعينات القرن الماضي أبلى السيد "برنارد لويس" ـ بريطاني الأصل أميركي الجنسية ـ بلاء حسنا في رسم ملامح تقسيم مصر في إطار مخطط أشمل، يستهدف تغيير وجه المنطقة العربية دون استثناء وفي 1/ 5/ 2006 وحينها ألقى ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي خطابا بمجلس الشؤون العالمية في فيلادلفيا قال فيه: "إن لويس جاء إلى واشنطن ليعمل مستشارا لوزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط"!

أحيلت الخارطة بعد اعتمادها من البنتاجون على قائمة المشروعات الاستراتيجية الأميركية المستقبلية.

وفي واقع الأمر، فإن خطة تقسيم المنطقة العربية والإسلامية إلى كينتونات صراع بدأت مع "سايكس بيكو"، لكنها دخلت حيز الفعل الجاد مطلع سبعينات القرن الماضي.

كانت الخارطة جاهزة وفقاسة الإرهاب على أشدها وحرب الخليج الأولى والثانية تطهوان ومحمد مرسي قيد الإعداد.

لكنها غلطة الشاطر أقصد "الخواجة"، فغداة رهانه على الإخوان لم يتذكر تأميم قناة السويس، ولا قرار المملكة إبان حرب أكتوبر، ولم يأخذ في الحسبان جيش مصر العربي المسلم وجنراله اليقظ عبدالفتاح السيسي.

نفسي أقول سقط المخطط.. لكن أحداث مصر غيرها في اليمن؟!

سلام على مصر شعبا وجيشا وجنرالا.. ولا نامت أعين المتمحكين.