لم ألجأ إلى التعجّل في قراءة رواية الطاهر شرقاوي "عن الذي يربّي حجراً في بيته" -الصادرة عن دار الكتب خان القاهرية- فقد قضيتُ بضعة أيام أراوح بين فصولها أو لوحاتها الست عشرة مجذوباً إلى التفاصيل المنقوشة بانتباهٍ وإلى حالاتٍ من الوصف والسرد تعوم ما بين لذّة الحكاية وبين متعة الاشتباك مع الشعر الذي لا ينشأ من حقل النشاط اللغوي بقدر ما ينشأ من القدرة على النفاذ خلفَ ما هو مرئيٍّ؛ تفريداً وتشفيفاً وكشفاً لأعماق الذات، إنْ في حمّى الاستيهام أو في رصد حضورها مُتخلَّلَة بالعالَم.

يقوم هذا العمل على إرهاف الحواس وصقلها وتذويب الواقع في مائها والتقاطُ ما وراءَه من أسرار الخفاء. البطل يمتهنُ "كتابة القصص المصورة في مجلات الأطفال" لكنّهُ لا يذهب إلى مقرّ العمل في دوامٍ ثابت كأي موظف. وسيلةُ صلتِهِ في الغالب البريدُ الإلكتروني يرسلُ عبره ما ينجزه من قصص. يعيش وحيداً وفي عزلة تامة. كلامُهُ نادر وينفُرُ من الضوء، يعيش في صمتٍ ويمرّن جسدَه على العتمة. "غريب الأطوار" يجمع الأحجار بأشكالها وألوانها المختلفة ويمنحُها حياة، وتصدر عنه أفكار استحواذيّة.. عندما تفاجئُهُ -هذه الأفكار- وتستحكم به فيعلّق أفعاله على شرطٍ اعتباطي أقرب إلى الاستحالة أحياناً. ليس له اسمٌ نعرفُهُ به، ومَن تربطهم به صلةُ الجيرة أو علاقة الصداقة أو مكان الاسترواح يغطسون في التنكير إن بصفة المكان الذي يجمعه بهم أو بحرف "س"؛ هذا الطرف المُعمّى في معادلة العلاقة الإنسانية، أمّا من اكتسى باسمٍ أو تعريف فهو يرتحل في ضبابٍ من الغموض أو في الحدِّ الرجراج الذي لا يتميّزُ فيه الواقع من الخيال.

في هذا المناخ من العزلة والغرابة تنبني "عن الذي يربّي حجراً في بيتِه" في قوامٍ متقطّع. تقف في أوّله شخصيّة "سيرين" -الشخصيّة الوحيدة المعرّفة- وتنتهي به؛ تغيب جسداً وتحضر فقط صوتاً واستيهاماً فتتواصل معه عبر الهاتف أو الأحلام "كل حواراتنا تتم إمّا عن طريق الحلم أو المكالمات التليفونيّة". تنفُذُ "سيرين" إلى عالمه وهو قابعٌ في العتمة. لا يستقيمُ الحوار معها في الضوء. صوتُها نافذتُهُ التي تشقُّ عتمتَهُ الداخليّة وتخفّف من وجيبَ توتّرٍ هائمِ الجهةِ التي يأتي منها يشقُّ الصدر ويضطربُ له الجسد بنزيف العرق. تأخذُهُ ضحكتها إلى الصفاء والاسترخاء والتحلّل من مراقبة جسدِهِ وأفكاره"... فقط أعيش مع ضحكتها حتى النهاية، أستمتعُ بها وهي تلامس أذني برفق، ثم تواصل طريقها نحو الأعماق بكل يسر، أشعر بها وهي تسري في كل شراييني وأوردتي، تلامسني -الضحكة- بلطفٍ وخفّة، محدثةً خدراً لذيذاً يجعلُ جلدي ينكمش".

يتبدّى البطل واحداً من كائنات الظلام بحساسيّةٍ عاليةٍ من الضوء يتلقّاهُ بانزعاجٍ وإرهاق ويحاول ما استطاعَ أن يهربَ منه ويسدَّ عليه منافذ دخولِهِ إلى شقّته. لا يعثر على الاطمئنان إلا في غيابِهِ وإلا في حضرةِ الصمت "يبدو النورُ ثقيلاً... يصدمني أثناء تجوالي فأتحرّك بصعوبةٍ وجهد، يبدو كشبكةٍ من الخيوط الرفيعة تلتفُّ حول ساقي وبدني، وكلّما تقطّعتْ التفّتْ حولي خيوطٌ جديدة". كأنما يقيمُ ساتراً يحجبُهُ عن العالم وعن حركتِهِ بما يمثّلانِهِ من ثقلٍ رازحٍ يسعى إلى التخفّف منه وقَلْعِهِ مثلَ شوكةٍ لا تدمي الجسدَ وفقط؛ بل تنفُذُ إلى عالمِهِ الجوّاني تعيثُ فيه فيتنزّى بعرقِ القلق شأنَ مَن يتخبطُ في متاهةٍ وتضيعُ منه علاماتُ الخروج. يصحُّ هذا الجسد وتفيءُ إليه السكينة ويستعيدُ حضورَهُ وفعاليّتَهُ عندما يخفت الضوء وتنزل عليه ستارة الظلام "في الوقتِ الذي يأتي فيه الظلامُ ناعماً كملمس الحرير، أتحرّكُ فيه بكلِّ سهولة، أخترقُهُ حجاباً وراءَ حجاب بلا عوائق، أشعرُ وكأنّ الفراغ من حولي ازدادَ اتّساعاً، يصبح جسدي أكثرَ خفّةً، يلمسني برقّة بينما أذوبُ في سكينةٍ وسلامٍ مع نفسي".

في بينيٍّةٍ تمضي حياةُ هذا "الذي يربّي حجراً في بيتِه". خطوةٌ في العالم واثنتان خارجه. وجودٌ على الحوافِّ الزَّلِقَة بانتظار ما لا يأتي أو ما يتوقّعُهُ لكنه يحجم عنه لحظةَ الحضورِ واحتكاكِ البصر (فتاة المقهى في الفصل الرابع عشر). غرامُهُ هذه البينيّةُ التي يمشي على حدودها مغمضاً، ربما يوماً يصبحُ طيراً أو تمتدُّ إليه يدٌ في النومِ تجذبُهُ ليقيمَ هناك في عالم الأحلام "بلا نهاية" حيث "الحريّة الكاملة".