نجوت من الموت بأعجوبة. كنت وسط 250 آخرين لقوا مصرعهم برصاص جنود الجيش الذين ارتكبوا مجزرة بشعة. كنا 12 شخصاً تظاهرنا بالموت وذهب الجنود بعد أن ظنوا أنهم قضوا على الجميع". هكذا يروي سايمون مأساته وهو ممدد على فراش في مستشفى ميداني تابع لإحدى قواعد الأمم المتحدة في جوبا عاصمة جنوب السودان. ويضيف "تم توقيفنا مع رجال آخرين عندما بدأت المعارك بين أنصار الرئيس سلفا كير والمتمردين التابعين لنائب الرئيس السابق رياك مشار الذي أقيل في يونيو من العام الماضي". تم اقتيادهم إلى مركز للشرطة قبل أن تطلق عليهم قوات الرئيس كير النار من خلال الزجاج، فتقوقع في زاوية ثم اختبأ تحت الجثث. ظل في مكانه لمدة يومين خوفاً من انكشاف أمره، وعندما أتت قوات الأمم المتحدة لإخلاء المكان من الجثث التي تعفنت، نهض من مكانه فأخذوه معهم إلى المستشفى. ويكمل الصورة المأساوية قائلاً "لم ارتكب ذنباً وكنت أعمل موظفاً في المجلس المحلي لمدينة جوبا. اعتدوا علي وعلى المئات لسبب بسيط هو أننا ننتمي لقبيلة النوير التي ينتمي لها نائب الرئيس مشار.
وفي المقابل تروي تريزا في مستشفى آخر أن القوات التابعة لنائب الرئيس المقال ريك مشار اقتحمت قريتهم القريبة من ملكال، وأطلقت النار عشوائياً على سكانها، لا لسبب إلا لأنهم من قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها الرئيس سلفا كير فقتلوا المئات وأحرقوا بقية القرية على سكانها. وتضيف "ظللت هائمة على وجهي في الغابة لمدة 3 أيام، لم أجد طعاماً أتناوله سوى أوراق الأشجار والقليل من الماء. أغمي علي من شدة الإرهاق والجوع وعندما استيقظت وجدت نفسي في مستشفى تابع للأمم المتحدة، وعلمت أنهم عثروا على العشرات أمثالي وأتوا بنا للمستشفى لتلقي العلاج". وتكمل باكية "لا أعلم شيئاً عن مصير زوجي وأبنائي السبعة، لا توجد وسائل للاتصال لأطمئن عليهم".
هذه هي الصورة في جنوب السودان حسب روايات الشهود، عنف قبلي وعنف آخر في الاتجاه المضاد، يموت المدنيون الأبرياء وأطفالهم بدون رحمة أو شفقة، لا لشيء إلا لأنهم يتبعون قبيلة غير التي ينتمي إليها قاتلهم، سواء من القوات الحكومية أو قوات التمرد.
ورغم توقيع وقف لإطلاق النار، إلا أن متابعين لا يتوقعون أن يؤدي بالضرورة إلى حل الأزمة، وأشاروا إلى مخاوف جدية من احتمال خرقه في أي لحظة بواسطة أي من الطرفين.
تعتيم إعلامي
وتعجز كافة وسائل الإعلام عن الوصول للحقيقة أو التثبت من روايات الناجين، لأن المعسكرين المتنافسين يرفضان اقتراب أي صحفي، ومن يتجرأ على مخالفة الأوامر يكون جزاؤه رصاصة تخترق رأسه أو جسمه، هكذا بكل بساطة.
وبين كل حين وآخر، يعقد المتحدث باسم الجيش الجنوبي فيليب أغوير مؤتمرا صحفيا مقتضبا، يسرد فيه الواقع ويجيب عن أسئلة عدد قليل من الصحفيين، وفي العادة تعطى الأولوية للصحفيين الموالين للنظام. وفي المؤتمر الأخير نفى أن يكون ما يحدث مشكلة قبلية، وقال إنه لم يثبت لهم أن جنودا حكوميين قتلوا مواطنين لأسباب عرقية، ونسب التجاوزات لمن قال إنهم "عصابات من المجرمين" في العاصمة. إلا أن أحد الناجين يؤكد وجود مخطط وحشي لأعمال عنف ذات طابع قبلي، تشمل عمليات قتل واغتصاب منذ أن اندلعت المواجهات في الخامس عشر من ديسمبر الماضي. وأشار إلى أنه لجأ إلى قاعدة للأمم المتحدة في جوبا بعد أن اضطر إلى ترك عمله في الحرس الرئاسي لأنه من قبيلة النوير المنافسة للرئيس كير، وشاهد بعينيه زملاءه وهم يرتكبون عمليات قتل واغتصاب بالجملة لفتيات من نفس قبيلته. وكان يخشى أن ينقلب عليه زملاؤه في نهاية المطاف. وقال "هناك جنود يفعلون ذلك. والحكومة تقوم بتوزيع أسلحة على ميليشيات من شبان الدينكا"، متهما مكتب الرئيس بأنه يقف وراء عمليات توزيع السلاح. وتابع "الجنود يسألون كل من يشكون فيه قائلين "اين شولي" وتعني "ما اسمك" بلغة الدينكا، ومن يعجز عن الإجابة يتم سحبه وتوثق يداه ثم يقتل".
خلفيات الصراع
يعود تاريخ الصراع في دولة الجنوب إلى ما قبل استقلال الدولة الوليدة عن جمهورية السودان، حيث لم تغب النزاعات حتى خلال الحرب الأهلية مع الشمال، إلا أن الزعيم الراحل للحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق كانت يملك من الكاريزما ما يؤهله للسيطرة على الخلافات، واستطاع أن يحافظ على وحدتها حتى تمكن في مايو عام 2005 من توقيع اتفاق مع حكومة الخرطوم، نص على منح الجنوبيين حق تقرير مصيرهم، وتم تعيينه نائباً أول لرئيس الجمهورية، إلا أنه توفي قبل انتهاء الفترة الانتقالية التي سبقت إجراء الاستفتاء الذي نال الجنوبيون بموجبه استقلالهم وأعلنوا ميلاد دولتهم في التاسع من يوليو 2011م.
ما إن تم إعلان الاستقلال وتشكلت الحكومة حتى بدأت الصراعات والخلافات تظهر بين رفقاء السلاح، وأصبح أصدقاء الأمس هم أعداء اليوم. وكانت دول الجوار تتدخل كل مرة لاحتواء الخلافات بين الرئيس سلفا كير ونائبه ريك مشار، حتى وصلت الخلافات بينهما نقطة اللا عودة وقام الرئيس بعزل نائبه واتهمه بالفساد المالي والتآمر على قلب نظام الحكم، متعهداً بتطهير البلاد "من الفاسدين والمرتشين والمجرمين. كما قام باعتقال العديد من أنصار نائبه وزج بهم في السجون، وعلى رأسهم الأمين العام للحزب الحاكم باقان أموم، وريبيكا، أرملة الزعيم الراحل جون قرنق. وأمر سلطات بلاده القضائية بتقديمهم للمحاكمة. وأظهر مشار خضوعاً لقرارات الرئيس، وتعهد بمنافسته ديمقراطياً، معلناً ترشيح نفسه في انتخابات الرئاسة القادمة، لكن يبدو أنه كان يخطط للحظة التي ينقلب فيها على خصمه، ويسعى للحصول على السلاح الذي يمكنه من مقارعته، وهو ما تم بالفعل عندما هاجمت قواته في الخامس عشر من ديسمبر الماضي القصر الرئاسي في جوبا وبعض المواقع الرئاسية الأخرى، مما أدى إلى اندلاع القتال الذي سرعان ما استشرى وعم بقية مدن البلاد.
مسببات الخلاف
ولا تقتصر أسباب الخلاف بين الرجلين على العامل القبلي وحده، حيث إن من بين أقوى أنصار نائب الرئيس ريبيكا زوجة الزعيم الراحل جون قرنق، والوزير دينق ألور وبعض ممن يؤكدون أنهم أنصار مؤسس الحركة وباتوا يعرفون باسم "أولاد قرنق". بينما يؤكد الرئيس أنه الوريث الشرعي للحكم، وأنه كان أخلص أعوان قرنق الذي عينه القائد الشرعي للقوات وصاحب الكلمة الأولى خلال فترة الحرب الأهلية التي انتهت بتوقيع اتفاق السلام مع الشمال في مدينة مشاكوس الكينية.
ومن أسباب الخلاف الجوهرية شكل العلاقة مع الخرطوم، وبينما يبدي الرئيس موقفا عقلانيا ويؤكد حتمية وجود علاقات طيبة بين البلدين، نسبة لحاجة جوبا الماسة لجارتها الشمالية، لاسيما لتصدير النفط، الذي يشكل المورد الأول الذي تعتمد عليه الدولة بنسبة 90% لتوفير عائدات اقتصادية تكفي لدفع رواتب الموظفين وتسيير الدولة، حيث لا تملك بلاده وسائل لنقل الخام إلى الخارج بسبب عدم وقوعها على أي منفذ بحري، إضافة إلى عدم وجود بنيات تحتية أو مصافٍ للنفط. كما أن الدولة الوليدة تفتقر إلى أبسط المقومات الاقتصادية والصحية والتعليمية، ولا توجد بها أراض صالحة للزراعة بالصورة التي تكفي حاجة سكانها. لذلك كان يعول على تنشيط الاتفاقات الاقتصادية مع الشمال وفتح الحدود أمام حركة التجارة بينهما.
في المقابل، أبدى الطرف الآخر مواقف أكثر تشدداً حيال تطوير العلاقة مع الشمال، وكان قائد الفريق المفاوض، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، باقان أموم الذي يوصف بأنه من أخلص أعوان نائب الرئيس كثير التعنت في كل مفاوضات السلام بين الطرفين التي شهدتها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وانتهت جولات التفاوض إلى لا شيء بسبب الخلافات العميقة بين الجانبين، التي كانت الحكومة السودانية تعزوها لعدم رغبة أموم في وجود علاقات طبيعية بين البلدين.
خلفيات تاريخية
كذلك اختلف الفريقان حول شكل العلاقة مع قطاع الشمال من الحركة الشعبية، وهم الشماليون الذين وقفوا مع الجنوبيين ضد الخرطوم خلال سنوات الحرب الأهلية، وينتمي أغلبهم إلى ولاية جنوب كردفان، والذين كان عليهم بعد توقيع اتفاق مشاكوس أن يعودوا إلى بلادهم، وأن يتم فك الارتباط العسكري بينهم. فبينما أصر مشار وأنصاره على مساعدتهم في حربهم المستمرة ضد الخرطوم، وفتحوا لهم أبواب المعسكرات في الدولة الوليدة، وخصصوا أجنحة الفنادق لقادتهم. ولم يتوقفوا عند ذلك، بل استقبلوا أيضاً حركات دارفور المسلحة، وسمحوا لها بإنشاء معسكرات للتدريب. وهو ما رفضه كير في وقت لاحق، بعد أن ضاق ذرعاً بالتكلفة المادية الهائلة التي تتكبدها حكومته في الصرف على هؤلاء، إضافة إلى ما جره ذلك على حكومته من عداء الخرطوم، واحتضانها بالمقابل للمتمردين الذين كانوا يحاربون حكومة الجنوب ومدها بالأسلحة والمساعدات اللوجستية، وهو ما كلف الدولتين مبالغ طائلة، وأدى إلى تدهور الأوضاع بينهما وبروز شبح الحرب الأهلية من جديد.
كذلك ساعدت أطراف دولية في استشراء الخلاف بين الرجلين، فبينما يميل الرئيس نحو المعسكر الأفريقي، ويحتفظ بعلاقات طيبة مع الاتحاد الأفريقي الذي يسعى إلى تهدئة أحوال القارة، يجنح مشار وأموم نحو المعسكر الغربي، وكثيراً ما بثت وسائل الإعلام صوراً تجمع نائب الرئيس مشار بمستشارة الأمن القومي الأميركي سوزان رايس المعروفة بمواقفها المتشددة تجاه الخرطوم، إضافة إلى زيارات أموم العديدة إلى إسرائيل وحرصه على وجود علاقات قوية معها.
وكعادته، سارع الاتحاد الأفريقي إلى التدخل لمحاولة احتواء الأزمة، إلا أن جهوده باءت بالفشل الذريع، نسبة لتعنت الفريقين في مواقفهما، حيث يصر نائب الرئيس المقال على إطلاق سراح المعتقلين في جوبا كشرط لوقف القتال، بينما يتمسك الرئيس كير بعدم وضع شروط للحوار.
حياد إيجابي
وفي موقف فاجأ المجتمع الدولي، التزمت الخرطوم التي طالما اعتادت التدخل في شؤون الدولة الوليدة، إيجابا مرة، وسلبا مرات أخرى، بالحياد في الأزمة. وكان الرئيس السوداني قد قام بزيارة سريعة إلى جوبا التقى فيها نظيره الجنوبي سلفا كير، وعند عودته أطلق وزير الخارجية علي كرتي تصريحاً مدوياً قال فيه إن الرئيسين اتفقا على تشكيل قوة مشتركة لحماية مناطق النفط، وهو التصريح الذي سرعان ما تراجعت عنه الخرطوم.
وقرنت الخرطوم كلامها بالفعل ونأت عن التدخل في القتال الدائر لمصلحة أي من الطرفين، كما سعت من خلال مقعدها في الاتحاد الأفريقي لإيجاد حل للأزمة، وهو الموقف الذي اضطرت معه الإدارة الأميركية للإشادة بالرئيس البشير في موقف نادر الحدوث، وكذلك فعلت بريطانيا.
وفي تعليق على الأحداث وصف الأستاذ بجامعة أفريقيا العالمية والمحلل زيارة البشير بأنها "مستعجلة"، وانتقد الحكومة السودانية قائلاً "الخرطوم غير منتظمة في مؤسسات حقيقية وكثير من أفعالها يشوبها الارتجال. والزيارة كانت تلبية لمبادرة من شخصية جنوبية"، مشيراً إلى ما سماه عدم انتباه الخرطوم لمطلوبات الزيارة "التي لم تكن كافية لإحداث اختراق للتواصل السوداني الجنوبي أولاً والجنوبي الجنوبي ثانياً".
وأضاف حسن في تصريحات إلى "الوطن" "كان باستطاعة الحكومة السودانية في بداية اندلاع الأزمة جلب الخصمين إلى الخرطوم والقيام بوساطة حقيقية، لأنها تتمتع بعلاقات طيبة مع كليهما، إلا أنها أضاعت تلك الفرصة التي لن يكون بالإمكان تكرارها بعد استفحال النزاع ودخول الاتحاد الأفريقي على خط الأزمة".
وتابع "الخرطوم هي الخاسر الأكبر من أي تدهور في آبار النفط أو تدميرها أو وقف إنتاجها، لأنها تعتمد بصورة كبيرة على ما تجنيه نظير قيامها بتكرير ونقل الخام الجنوبي إلى موانئ التصدير. وما دامت لها مثل تلك المصلحة الحيوية فإن التخطيط الاستراتيجي يفترض أن تمسك بكل خيوط اللعبة، وأن تحتفظ بعلاقات طيبة مع جميع الأطراف، بدلاً من محاولات تقوية طرف على الآخر، كما كان يحدث سابقا".ونصح حسن الخرطوم قائلاً "الحياد في مثل هذه الحالات هو موقف متزن وعاقل، وقد اختارته الحكومة السودانية قولا وفعلا، مما أكسبها شهادات دولية هي في أمس الحاجة لها، كما أنه يؤمن موقفها في حال استمرار حكومة الجنوب الحالية أو تغييرها مستقبلاً". وختم حسن حديثه بالقول إن الزيارة كانت محاولة لاستكشاف ما يجري في جوبا، وما إذا كان بمقدور السودان لعب دور إيجابي في معالجة الأزمة أم لا.
زيارة مفاجئة
من جانبه، يرى نقيب الصحفيين السودانيين محيي الدين تيتاوي أن الزيارة كانت "عادية بين رئيسي دولتين لديهما علاقات ومصالح مشتركة تتعرض لأضرار من مجموعات خارجة على الحكومة في جوبا". وقال "من الطبيعي أن يبادر البشير إلى زيارة جوبا في هذه المرحلة والظروف التي تعيشها دولة الجنوب، حيث هناك حاجة ماسة لاستكشاف الوضع على الطبيعة ومعرفة الحقائق، لاسيما مع غياب المعلومة الصحيحة والضبابية التي اكتنفت المشهد. كذلك لا ينبغي أن نتجاهل وجود ضرورة للتشاور والتشارك في كيفية رفع الضرر الذي وقع على الدولتين معاً بسبب تأثر انسياب النفط الجنوبي الذي تعتمد عليها كلتا الدولتان".
ورأى تيتاوي في إرسال فنيين سودانيين للمساهمة في تشغيل حقول البترول الجنوبي "خطوة إيجابية للمساهمة في عدم انهيار الدولة. كما أن السودان بوصفه عضوا في الاتحاد الأفريقي وفي مجموعة شرق ووسط أفريقيا "إيجاد" فإنه يعمل للمساهمة في معالجة أي خروج على سلطة أي دولة عضو آخر".
كما وجد الموقف السوداني إشادات بعض المسؤولين الجنوبيين، حيث قال القيادي بحزب "يوساب" ملوال أييك "زيارة البشير إلى جوبا معنوية بالدرجة الأولى، ولم تكن تهدف لإعلان الوقوف مع الحكومة ضد الفريق الآخر. بل مجرد محاولة لاستكشاف الوضع. فقد جاء الرئيس السوداني إلى جنوب السودان لتأمين مصالح بلاده النفطية عبر التعرف من سلفا كير على طبيعة الأوضاع الميدانية في المناطق الغنية بالنفط. وهذا تصرف طبيعي وحق مشروع. لكن ما يستحق الإشادة هو الحياد الذي التزمت به الخرطوم وهو ما أكسبها تقدير جميع أبناء الشعب الجنوبي".