من اللؤم أن يتزيد الإنسان بتجربة لم يعشها، لكنه قطعا يعرف تفاصيلها ممن حوله، كمرحلة طغت على جيل كامل، أقول هذا الكلام عندما قرأت لأحد النقاد الأدبيين تصنيفا للكُتاب يعتمد على تجربة دينية سابقة، وقد أسبغ علي شرف تجربة لا أدعيها، لأني فعلا لم أخض تجربة ما يسمى (مطوع سابق)، فطيلة حياتي وعلى مستوى معايير الشكل الصحوية، لم يكن لي لحية بمعايير الصحوة، لكن قطعا جربت اللحية بمعايير الموضة الخليجية، ولم أتخل عن لبس العقال في يوم من الأيام، وعميد كلية الشريعة عند تخرجي البائس منها وحسب تقاليد كلية الشريعة في مقابلة العميد لكل خريج من قسم الشريعة على حدة قال لي: والله إنك اسم على غير مسمى ولا أعلم كيف تمكنت من التخرج والوصول للسنة النهائية وأنت بهذا الشكل؟! ولم يعلم أن تعاطف بعض شيوخي الأزهريين كي أتخرج كان أكبر من تعاطف بعض بني جلدتي، أقول هذا الكلام كي يضع القارئ كاتبه المفضل في حجمه الطبيعي التقليدي لشاب عادي جدا، لم يخض أي تجارب أيديولوجية، فالشيء الوحيد الذي أتقنته دائما آنذاك القراءة خارج المنهج، والانسحاب من رفقة هؤلاء بهدوء إن شعرت منهم إرغاما أو إكراها ولو كان باسم الدين، وكان والدي يساعدنا على ذلك ويقدم لنا المساعدة إن لزم الأمر، ففي المرحلة الثانوية قام أحد المعلمين بإعداد خطاب يرفع لوزارة المعارف آنذاك كي يتم تغيير منكرات منهج اللغة الإنجليزية وفق ما يتناسب ووجهة نظره (كان معترضا على مواضيع منهج القراءة للغة الإنجليزية)، وطلب من جميع الطلبة التوقيع، ووالدي كان يحذرنا من هذا ويعيد علينا حكايات جهيمان وكيف أن كثيرا انجرفوا جهلا وحماسة، وعندما أخبرت أنا وأخي الأصغر والدنا بما حصل في المدرسة، حضر في اليوم التالي معاتبا مدير المدرسة بطريقة أبوية قاسية بصفته رجلا تجاوز الستين آنذاك، مما ترتب عليه طردي وأخي من جماعة التوعية الإسلامية، والاستغناء عنا من أنشطة الإذاعة، فليس لمثلنا محل في النشاط اللامنهجي، ووصل الأمر بهم مع أخي الأصغر (ماجد) الذي كان يجاهر بعدائهم أن ينجح في جميع المواد العلمية من رياضيات وكيمياء وفيزياء... إلخ في الصف الأول ثانوي ويرسب في مادة التوحيد والفقه والحديث!؟ ما زال شاهدا حيا على ذلك، طبعا هذه التراكمات وما تلاها أثرا عليه في سرعة مواصلة دراسته، ولكن كيدهم لم يؤثر عليه على المدى البعيد، ليصبح موظفا بالقطاع الخاص بمرتبة وراتب ضعف راتبي كموظف حكومي، بالإضافة إلى عمله الخاص عبر مؤسسته الناجحة في الدعاية والإعلان.
واصلت طريقتي في الانكفاء الاجتماعي والنظر للعالم بعيون من كتب، أعشق الهروب من كتب المدرسة المملة إلى كتب المكتبة، كان أخي الأكبر يجيء بفيكتور هيجو وديكنز وابن عمي يزورنا بإيليا أبوماضي ولكني اكتشفت رغبة بداخلي تسوقني في الصف الأول متوسط لكتاب ألف ليلة وليلة لما فيه من خيال وأشياء أخرى تشد المراهق، ثم انجرفت لكل ما كتبه العقاد فكريا، باستثناء العبقريات فلم تجذبني، وهكذا حتى دخلت كلية الشريعة بناء على رغبة والدي وحماسته في أن أكون قاضيا!، طبعا تخرجت بمعدل متواضع بالكاد أهلني لوظيفة إدارية بأحد القطاعات الحكومية.
أقصى حالات التدين عندي كانت لا تتجاوز مطاردتي لكتب مصطفى محمود الصغيرة التي تهدئ قلقي الوجودي، ثم قررت في أحد "أترام" الجامعة أن أكون متدينا بشكل يخصني وبطريقتي التي تعنيني، بخلاف زملائي من طلبة المعهد العلمي، فأنا خريج التعليم العام قسم علمي، وقد اشتريت لأجل هذه الغاية مجلدات (إحياء علوم الدين) للغزالي المتوفي عام 505هـ، وبدأت في قراءتها وما زلت من الذاكرة أتذكر تقسيمه للمهلكات والمنجيات والعبادات والمعاملات، ومنه لجلال الدين الرومي، وقد تعلمت منهما الفرق بشكل غير مباشر ما بين صاحب الإيمان وصاحب العقيدة، فالمؤمن روح مفتوحة للمحبة، والمعتقد نفس مغلقة للخصومة، وبين روح أولئك وعقيدة ابن تيمية والإمام الطحاوي كمنهج جامعي بقيت أهرول، حتى جاء الفرج على يد محمد أبوزهرة في كتاب اشتريته وقع في نفسي محل رضا وإشباع في تلك الفترة قبل عشرين عام، وهو (تاريخ المذاهب الإسلامية)، وغيره، ومنها سارت الأمور إلى تواضع معرفي بتعدد الآراء وهكذا ما زلت أقرأ بحسب قدرتي على الفهم، منذ استعارتي وأنا بالصف الخامس الابتدائي لمختصر سيرة ابن هشام، والمعلم يسخر مني ويصر بخبث على أني استعرته لأخواتي الكبيرات في المنزل، فأجيبه بصفاء نية، كل أخواتي أصغر مني!
هذه الحكاية المختصرة كي أقرر أني لست مدينا للتعليم العام والجامعي، باستثناء مكتبة الجامعة التي كنت أقضي فيها أحلى أوقاتي خارج المناهج المقررة، بالإضافة إلى ما تعلمته في مادة الهجاء/ القراءة وما بقي في الذاكرة من دروس الأستاذ الأردني الجنسية الفلسطيني الأصل الأديب الفاضل حسن منصور، وذلك في أولى مراحلي الابتدائية، بالإضافة إلى ما كانت تقوم به أمي ـ بعد سفر أبي وأخي الأكبر ـ من مساعدة للصق بعض الصور المطلوبة في مادة العلوم عبر الغراء المنزلي (تصنعه أمي بالسكر والماء) لأكمل رسوماتي، ثم أعرض لها كتابة معلمي لي بالتوفيق والنجاح، دون أن أحكي لها ضحك الأستاذ عندما فسرت له أسرار هذا الغراء الذي جعل دفتر الواجب كالورق المقوى، أما بقية ما تعلمته فما زلت أحاول التشافي منه ذهنيا، وخصوصا المحفوظات التلقينية، التي تؤثر على مستوى التفكير النقدي للإنسان، عبر تكريسها وجدانيا في فترات العمر المبكرة، مما يؤدي إلى عمى فكري، لغير ما سبب ظاهر، لكنه قطعا يظهر في كل تناقضاتنا الاجتماعية التي نجهل أسبابها.
تركنا والدي -رحمه الله- عمدا نعيش حياة الريف بضعة أشهر، ونحن أبناء المدينة بامتياز، عبر رعي الغنم، تعلمنا ذبحها للضيوف، طبخها في المنزل، الحرث وبذر الحبوب ثم الصريم وبعده دويس الحب، وتشريقه ثم تنقيته ثم طحنه وعجنه ثم خبزه بيد أمي في الميفا/ التنور، كان يغفر لنا كل أخطائنا مهما عظمت ولكن بشرط واحد أن نكون صادقين معه، من يكذب يخسر رهان التعايش معه، ويخسر رهان الثقة الكبير الذي كان يمنحه بكرم منقطع النظير، كل الأخطاء مهما عظمت يمكن العفو عنها عنده باستثناء الكذب، لكنه ككل الآباء مليء بالعيوب التي لا يجب أن يراها الأبناء، وإن رؤوها فلا يجب أن يحكوها، وإن حكوها فيجب أن يبرروها لصالح والدهم، فلا يستقيم لهم منطق دون كماله المطلق، دون أن يدركوا أن الأب بشر ممن خلق، وبهذا يعجز الابن عن الاستقلالية بالمعنى الحقيقي، وإن حصلت عندنا فلا تتجاوز استقلالية الشكل وتبعية المضمون عبر تاريخ بشري طويل من التقليد، لتنطلق التبعية من جديد عبر صناعة الأساطير، بدءا من عبادة العجل ببقايا الحلي، وحتى عبادة المنتصر بقرابين الدم.