تطرقت المقالات الأربع السابقة، للجدل الفلسفي حول حرية الإرادة في مواجهة مقولة الحتمية. بمعنى أنه هل هناك مجال لما يمكن تسميته بحرية الإرادة في عالم حتمي؟ تطرقنا لأنواع مختلفة من المواقف تجاه هذا السؤال تمتد من الرافضين لإمكانية التوفيق بين عالم حتمي وحرية الإرادة وينقسمون لقسمين: الأول يقبل مقولة الحتمية ويرفض حرية الإرادة (الحتميون)، والثاني يرفض مقولة الحتمية ويقبل مقولة الحرية (التحرريون)، والقسم الثالث يرى إمكان لجمع مقولتي الحتمية وحرية الإرادة في عالم واحد (التوفيقيون). في هذا المقال أحب أن أنقل النقاش إلى جانب آخر من ذات القضية قد يساعدنا في فهم معنى إشكال حرية الإرادة فعلا. هذا الجانب الآخر لا ينطلق من نقاش قانون الطبيعة بل من نقاش قانون الثقافة. ما أعنيه هنا بقانون الثقافة هو مجموع قوانين الاجتماع والتربية والسياسة التي نعيش داخلها. أي القوانين التي تنظم إدارة حياة الأفراد والجماعات من جوانبها المتعددة. الدعوى التي أريد دعمها في هذا المقال. أولا، إن هذه القوانين، على خلاف قوانين الطبيعة، لا يمكن أن تكون حتمية وبالتالي فهي لا تهدد حرية الإرادة بالمعنى الميتافيزيقي (أي لا تهدد إمكان وجود حرية الإرادة). ثانيا، إن هذه القوانين هي ما يشغل الناس في غالب الأحوال عند التفكير في حرية الإرادة، وهذا قد يفسر أن كثيرا من الناس يعتبرون حرية الإرادة بديهية من الصعب تكذيبها. في البداية سأبرز عددا من الفروق الجوهرية بين قوانين الطبيعة وقوانين الثقافة.

أولا، قوانين الطبيعة لا يمكن أن تفشل، بينما قوانين الثقافة قابلة للفشل. غليان الماء عند درجة حرارة مئة مئوية عملية بسيطة وتنجح دائما. عدم نجاحها يعني أن هناك معجزة أو أمرا خارج الطبيعة. أي حالة استثنائية غالبا نسمع عنها ولا نراها. في المقابل قوانين الثقافة يعلم الجميع أنها قابلة للفشل وبنسب عالية أحيانا. على سبيل المثال المعلمة تعلم أنه لا توجد أي ضمانة لكون الأهداف التي تسعى لتحقيقها في العملية التربوية ستتحقق مع الطالبات. القوانين السياسية قد تكون مجرد حبر على ورق ولا نصيب لها من أرض الواقع. القوانين الاقتصادية قد تؤدي لنتائج عكسية لما تدعي أنها تريد القيام به. البشر يعون هذا الفرق جيدا. لم توجد أي مظاهرة شعبية في يوم من الأيام ضد قانون الجاذبية. كل محاولات البشر لتحدي هذا القانون تمت بالعمل داخل قوانين الجاذبية نفسها. في المقابل نشهد باستمرار علميات جادة لتغيير قوانين الثقافة بكافة أنواعها. كثير من أهل التربية يطالب بتغييرات جذرية في قوانين التعليم المطبقة على أرض الواقع.

الفرق الجوهري الثاني هو أن قوانين الطبيعة لا تختلف آثارها بحسب الأفراد الذين تقع عليهم بينما تتفاوت بشكل هائل آثار قوانين الثقافة بطبيعة الأفراد. على سبيل المثال إصابة الفرد بمرض السكري لا تخضع لأي اعتبارات اجتماعية أو ثقافية. القوانين الطبيعية في أستراليا هي ذات القوانين في البرازيل. بمعنى أن قوانين الطبيعة لا تفرّق بين الأفراد ثقافيا. ما يجعل فلان يصاب بالسكري والآخر لا يصاب به هو أمر محكوم بقانون الطبيعة نفسه وليس بعوامل خارجة عنه. في المقابل نعلم أن قوانين الثقافة تتفاوت آثارها بحسب الأفراد الذين تقع عليهم. المعلمة تعلم أن الآثار التي ستنتج عن تعليمها للطالبات ستتأثر بأحوالهم الذهنية والنفسية وخلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية..الخ من العوامل الخارجة عن قانون التربية.

قوانين الثقافة بطبيعتها تحكم علاقة بين طرفين على قدر متساو من القوة. بمعنى أنها علاقة بين بشر. قد يكون هذا الفرد أقوى من الآخر لكن هذا التفاوت ليس حتميا. بالإمكان دائما ولو من ناحية المبدأ تعديل ميزان القوة. في المقابل قوانين الطبيعة بين طرفين متفاوتين بالقوة. الإنسان من جهة والقوانين الطبيعية الكونية من جهة أخرى. التحدي الذي يواجه الإنسان أمام القوانين التي تحكم حركة الأرض والشمس والكواكب أو حتى تلك التي تحكم عمل دماغه وجهازه العصبي أكبر بشكل نوعي عن أي قانون اجتماعي أو ثقافي.

يمكن الاعتراض على الدعوى السابقة، أي الفرق بين قوانين الطبيعة وقوانين الثقافة وأهميته للجدل حول حرية الإرادة بالتالي: في نهاية الأمر يمكن رد قوانين الثقافة لقوانين الطبيعة. أي أن قوانين الثقافة محكومة بقوانين الطبيعة وبالتالي فهذا التفريق لا يحل المشكلة لأننا سنعود في النهاية إلى مواجهة قوانين الطبيعة. هذا الاعتراض له وجاهة كبيرة لكن يمكن مواجهته بالحقيقة التالية: رغم أن البشر يعيشون تحت قوانين طبيعية واحدة إلا أن أن قوانينها الثقافية تتفاوت. تحت قوانين الطبيعة ذاتها لدينا قوانين تربوية وسياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة. هذه المساحة التي فتحت المجال لهذا الاختلاف والتنوع هي المساحة الآمنة التي تجعل كثيرا من الناس لا يشعر بالقلق على إمكانية حرية الإرادة عنده. في نهاية الأمر غالب الناس لا يشترطون خرق قوانين الطبيعة ليكونوا أحرار. بمعنى الفرد لا يشترط أن يطير بدون قوة دفع أقوى من الجاذبية أو أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء ليكون حرا. ما يفهمه الكثير بحرية الإرادة هو الحرية داخل قوانين الثقافة التي يرى الفرد منا بعينه وتجربته المباشرة أنها احتمالية وخاضعة للظروف التي يمكن تغييرها. داخل العلاقات التي يتكون أطرافها من بشر يكمن القلق الحقيقي على الحرية. العلاقة مع الأب، مع الصديق، مع المعلم، مع البنك، مع النظام السياسي، مع الإرث الثقافي والديني، هي برأيي ما يقلق غالب الناس على حرية الإرادة التي يعلمون أنهم يملكونها وإن لم يستطيعوا ممارستها دائما.

نقل الجدل من قوانين الطبيعة إلى قوانين الثقافة، وإن لم يحل السؤال الميتافيزيقي، إلا أنه يفتح نافذة قد تكون فعلا هي النافذة التي نترقب الحرية منها أكثر من غيرها.