قبل نحو ثلاثة عقود ونيف - ما يوازي 33 عاما-، وتحديداً في عام 1980، بدأ الاهتمام الرسمي بتطوير المنطقة التاريخية في جدة، التي تقع في منطقة البلد المركزية الشهيرة بالحركة التجارية التي أسهمت في بلورة الاقتصاد المحلي قديما وحديثا.
وتشير المصادر المعرفية التي تحدثت عن الحقب والعصور التي توالت على هذه المنطقة إلى أنها تتجاوز نحو 2600 عام تقريبا. وكتب بشأن ذلك الكثير من الكتب والمراجع التي تحدثت عن تلك العصور.
لهذه المنطقة في قلوب الجداويين تحديدا والحجاز عموما، عشق كبير، ويمكن التدليل على ذلك بالقصائد التي تغنت بها سواء بالفصحى أو اللهجة الحجازية العريقة.
تسجيل "جدة التاريخية"
يمكن القول إن تسجيل "تاريخية جدة"، ظل محل جدل واسع بين طرفين: وسائل الإعلام المحلية من جهة، والهيئة العامة للسياحة والآثار، بفعل تأخر تسجيل المنطقة ضمن قائمة التراث العالمي بمنظمة اليونسكو، وظل الأمر على حاله بين تقارير صحفية وتلفزيونية تحاول أن توضح مدى التأخر، وبين "الهيئة" التي تحاول كما تقول في بعض بياناتها الصحفية عدم الاستعجال في طرح ملف للتصويت، وأن الحملات الإعلامية ما هي إلا "مبالغات"، وأن تسجيل المنطقة أخذ أكثر مما يستحق.
وبعيدا عن مجال "اختلاف" وجهتي النظر، يمكن الإشارة إلى أن عام 2014، كان بحسب المراقبين المحليين والمتخصصين في تراث هذه المنطقة، فعّالا بمختلف المقاييس التراثية، ويشيرون هنا إلى مهرجان جدة التاريخية، وهو النسخة الأولى لهذه المنطقة منذ صدور قرار التطوير في 1980 تقريبا، وهو المهرجان الذي يعول عليه كثير من القرارات الدولية لصالح هذه المنقطة -أي تسجيلها كتراث عالمي-.
قبيل بدء المهرجان بفترة ليست بالقليلة دار الحديث عن جدواه في الدفع بـ"تاريخية جدة"، صوب العالمية، وتجلى ذلك في المؤتمر الصحفي الأول بحضور جميع الجهات الحكومية المختلفة (هيئة السياحة- محافظة جدة- أمانة جدة- الجهات الأمنية)، بأن يكون المهرجان الأول الذي يقام تحت شعار "كنا كدا" جسر الوصول لتسجيل المنطقة في قائمة التراث العالمي. ليس ذلك فحسب، فالمدير العام للهيئة العامة للسياحة والآثار محمد عبدالله العمري كان واضحا في الإجابة عن أسئلة الصحفيين الكثيرة والمقلقة بشأن التسجيل، وقال "لن تحضر منظمة اليونسكو لتقييم هذا المهرجان، فهذا ليس من اختصاصها في واقع الأمر"، واستدرك تصريحه بشيء آخر "لكن كل ما يكتب وينشر ويذاع عن المهرجان سيفيد بطريقة أو بأخرى في مرحلة التصويت".
قرارات فعّالة
قائمة القرارات التي أعلنت منذ اليوم كانت أيضاً جوهرية بشأن ما بعد المهرجان، كرصد دعم سنوي لتطوير المنطقة التاريخية بجدة بملبغ 50 مليون ريال من قبل وزارة الشؤون البلدية والقروية، إضافة إلى الإسهام الجاد في ترميم البيوت الأثرية التي شكلت الدفعة الأولى منها 34 منزلا أثريا من أصل 557 منزلا، خطوة أخرى نحو الرهان على الدورة الـ38 التي ستعقد في يوينو المقبل بالعاصمة القطرية الدوحة للتصويت على "التاريخية".
زاوية أخرى يستشهد بها بشأن ذلك، والمرتبطة بما ذكره رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار الأمير سلطان بن سلمان أثناء تصريحاته المختلفة بشأن المنطقة التاريخية، حينما أكد اهتمام الجهات العليا في الدولة ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بتراث المنطقة، بل ومساهمته شخصيا في ترميم عدد من المساجد، أهمها جامع الشافعي العتيق الذي يتجاوز عمره نحو 800 عام تقريبا، إضافة إلى تأكيده الحيوي بجملة قرارات هامة ستكون فاصلاً زمنيا معتبرا في تراث "المنطقة التاريخية".
الثقافة السياحية
تشير الدراسات المتخصصة في القطاع السياحي الدولي إلى أن المواقع التي تحوي الآثار التاريخية تشكل نسبة كبيرة في التوجه العالمي للسياح، وتؤكد الجهة المنظمة للمهرجان أن المنطقة التاريخية بجدة، تملك المواصفات التي تؤهلها لتكون ضمن مواقع "التوجه" السياحي، بما تملكه من تاريخ العصور التي تعاقبت على هذه المنطقة، ويتحدث هنا مجموعة من المرشدين السياحيين بلغة "التوقيت الحاسم"، بشأن أهمية الاستفادة من خلفية المهرجان في بناء ثقافة سياحية، إضافة إلى عوامل تساعد على ذلك تتعلق بمفهوم "الاقتصاد السياحي"، وما تتميز به من حركة تجارية كبيرة.
كما يوضحون في سياق حديثهم إلى "الوطن" أن أكثر المناطق المشابهة عالميا لـ"تاريخية جدة"، كالقرية العثمانية في مدينة بورصا التركية التي تختزل 500 سنة من التراث، حيث استفادت الحكومة المحلية من القرية في الدخل الاقتصادي من خلال الأفواج السياحية التي تأتي إلى القرية طوال أيام السنة بلا توقف، بعد تهيئة البنية التحتية للقرية، ودعم أهلها كي يستفيدوا من "الدخل القومي"، وهو ما جعلهم – أي الأهالي- يحافظون بشكل مستمر على تراث القرية.
استقطاب العوائل الأجنبية
وفي سياق متصل نجح المهرجان في استقطاب العوائل الأجنبية لضاحيته، وهو ما يعد خطوة فعالة ومهمة بحسب رئيس فريق الإرشاد السياحي بالمهرجان سمير قمصاني، قائلاً :"إن ذلك يدعم تشكيل السياحة في التاريخية"، مرجعا ذلك إلى الفعاليات التي صممت بطريقة تناسب من يريد أن يعرف تفاصيل المكون التاريخي لجدة القديمة، بشكل معرفي وثقافي، كما يضيف عاملا آخر، وهو اهتمام السائح الأجنبي بزيارة المواقع الأثرية لما لها من بعد مهم في التعرف على ثقافة الغير.
وأوضح رئيس فريق الإرشاد السياحي أن أغلب الأسئلة التي تطرح عادة من قبل "العوائل" الأجنبية تتمحور حول عادات الأهالي في المأكل والملبس والسلوكيات وطريقة الحياة قديما، إضافة إلى جغرافية المدينة (جدة القديمة)، وعن الحارات الأربع الرئيسية التي شكلت المدينة (الشام، المظلوم، البحر، اليمن)، قبل هدم السور عام 1947.
أما سؤال أماكن القنصليات والبعثات الدبلوماسية الأجنبية، فكانت محل اندهاش كثير من العوائل حين يعلمون بأن "التاريخية" كانت مقراً لدول أجنبية كبرى منذ نحو 176 عاما، حيث كانت المقر الرئيسي الأول للبعثة العسكرية والدبلوماسية الفرنسية بجدة عام 1838.
350 ألف زائر
وبينما ترصد "الوطن" السياق العام لمهرجان النسخة الأولى بناء على المعلومات الأولية التي حصلت عليها بشأن عدد زوار المهرجان في الأيام الأولى فقط، تجاوزت حاجز الـ350 ألف زائر، وهو عدد تراهن عليه الجهات الرسمية في جعل التاريخية قبلة سياحية داخلية وخارجية وبخاصة هيئة السياحة والآثار أكدت مؤخرا على لسان رئيسها العام أن القادم يمثل مراحل تطويرية مهمة في حياة المنطقة التي كانت حتى وقت قريب تعاني من الإهمال، ويمكن استدراك ذلك من خلال مقالات الكتاب المهتمين بتراث المنطقة وتاريخها، والأفلام القصيرة التي أنتجها مجموعة من الشباب الجداويين سابقاً عن الإهمال.
نقطة حيوية ذكرها رئيس لجنة الفعاليات وحفل الافتتاح بالمهرجان، نائب رئيس الشؤون المحلية بمحافظة جدة جمعان بن عقيل الزهراني وهي أن المهرجان خفض نسبة الجرائم في المنطقة التاريخية ما يقارب الـ70%، وهو ما يراه عدد من المراقبين المحليين إنجازا "أمنيا" ينهض بمستقبل السياحة في المنطقة التاريخية، الأمر الذي يخدمها في السنوات المقبلة، وبخاصة أن هناك انتقادات لبعض أصحاب المباني في تأجير الشقق السكنية لمخالفي أنظمة الإقامة، أو لأناس لا يعرفون القيمة التاريخية للمنطقة.. إضافة أخرى يؤكدها عدد من التدوينات الإلكترونية بضرورة تفعيل صيغة المهرجانات بشكل سنوي، وهو ما يساعد على تطوير "الثقافة السياحية" لدى أهالي جدة، وهو ما يعطي عروس البحر الأحمر أهمية سياحية من نوع خاص.