الشاعر عبدالرحمن الشهري، أحد الذاهبين إلى الأفق شعري جديد، حتى إن القارئ في ديوانه: "أسمر كرغيف"، يشعر بأنه أمام نصوص غير ذات صلة بما اعتاده في تراثه الشعري، ولعل السر في ذلك لا يكمن في اللغة وحدها، كما قد يتوهم متوهم، وإنما يتجاوزها إلى الصورة، إذ إن ذهاب الشعراء المجددين، في الاعتماد على رسم الصورة الحياتية اليسيرة، إلى الحد الأقصى، يجعل الصورة ذات مغزى برغم قرب مأخذها، فيصير ممكنا إيجاد وظيفة رمزية من ثناياها، بدون وجود علامات رمزية تاريخية، أو معاصرة، ومن ذلك قول الشهري، في قصيدة عنوانها: "لا أبدو مهتما":
الشارع مزدحم بالسيارات
مر صبي لا أعرفه
مرت امرأة..
مر كثير ممن أعرف،
أو لا أعرف،
مرت سنوات
هنا، يصعب على القارئ الوصول إلى رمز توحي به القصيدة، دون أن يكون دخوله إليها من بابها، وهو العنوان، بوصفه العتبة التي يتحتم عبورها للوصول إلى بهو القصيدة، ولأن العنوان في النص الحديث، ومنه القصيدة، صار عنصرا عضويا، ولم يعد لافتة وحسب، إذ يكون الانطلاق منه، للتحليق في فضاءات ترتفع، وترتفع، كلما أغرق الشاعر في الرمز، وأكثر من الصور الشعرية.
والعنوان: "لا أبدو مهتما"، هو الضوء المسلط على الزاوية المعتمة من النص، إذ به يصل القارئ إلى احتمال عدم المبالاة بالأحداث، المفضي إلى سرعة مرور الزمن، وبذا تكون الصورة المشهدية القائمة على السرد، والمشكلة من لغة قريبة المأخذ، رامزة إلى انقضاء العمر مسرعا، بسبب عدم الاكتراث بتفاصيل ومشاهد إنسانية، كان ينبغي الوقوف عندها بالنسبة إلى شاعر، لكن التزاحم، وتسارع وتيرة الزمن، حالت دون ذلك، لتكون الصورة رمزا لصفة السرعة التي يوصف بها العصر، حتى إنه يضاف إليها في قالب لغوي مكرر، هو: "عصر السرعة".
هذا معنى من المعاني التي تقترحها الصورة الشعرية، في القطعة السابقة، وربما كانت لدى آخرين احتمالات أخرى؛ لأن جوهر الرمز في الشعر هو عدم التعبير عن الفكرة تعبيرا مباشرا، ولذلك أسبابه الاجتماعية والسياسية والفنية، إذ إنه محاولة مقصودة لإخفاء المعنى، خوفا من الجهر به، وليكون أمام المتلقي أكثر من احتمال، هي ـ في حقيقتها ـ مخارج للشاعر، يهرب عبرها من الحرج، أو المساءلة، أو المسؤولية، وفي الوقت نفسه، يكون قد عبر عن تجربته الشعورية، دون أن يصادم، أو يباشر، مما يعني إسهام الرمز في تعميق المعنى، لزيادة أسباب التشويق والإدهاش والتأثير، وكلها عناصر تزيد في جمال الشعر، على الرغم من أن الكشف عن الرمز يحتاج إلى معارف تاريخية ولغوية. جربوا أن تقترحوا معاني أخرى ترمز إليها القطعة السابقة.. ستجدون بدون شك؛ لأن العلاقة بين الصورة الفنية، وما ترمز إليه علاقة حدسية، وليست علاقة حسية.