عانيت من ألم في الرقبة بدأ ينتشر إلى كتفي، ويتسلل إلى أصابع يدي اليسرى، قلت إنه إجهاد الكمبيوتر وانحناء الظهر، وعدم ممارسة الرياضة المقوية لعضلات الرقبة، وكنت في زيارة لأخي الدكتور محمد، وتحدثنا فقال: هناك في هانوفر جراح أعصاب شهير إيراني الأصل اسمه سامي لاتخيب معه عملية. قلت له رقبتي لن أسلمها لإنس أو جان، إيراني من قم أو أصفهان، أو روماني من تيمي شوارا، أو كازاخستاني من سيمي بالاتنسك!
قال هو جراح عالمي معروف دانت له الرقاب المعتلة، يهرع إليه القوم المرضى مهطعين إلى الداعي، يقولون عمليته ناجحة، ولكن المريض بعدها يخرج مشلولا أو ميتا نصفيا.
وأذكر هذا جيدا من المشفى الذي كنت أعمل فيه في ألمانيا وكانت الحالات كثيرة تلك التي نصلح فيها الشريان السباتي المغذي للدماغ لأن المريض كان يعاني من هجمات نقص التروية، وهو مايسميه أطباء الأوعية المرحلة الذهبية للتداخل الجراحي قبل وقوع كارثة الشلل والطرش والخرس. ولكن الذي كنت أراه منجفلا مرعوبا أن الجراحة كانت بدل إنقاذه تدفعه إلى لجة الماء فتغرقه بشلل وطرش وخرس! كان المريض بعد العملية (يتلعبط) فيحضر على الفور من جديد لطاولة العملية ويحاول (الشيف كذا) تسليك الشريان السالك للدماغ بدون فائدة، ومن رأى منظر أولئك المقعدين المشلولين الطرش الخرس يعرف معنى الدماغ في رأس كل واحد منا. وقرأت في كتاب رذرفورد الكندي أن الاتجاه بشكل عام ينحو نحو تخفيف التداخلات الجراحية ويميلون إلى المعالجة المحافظة في شرايين الدماغ مالم يكن شيئا متقدما خطيرا كبيرا.
وفلسفة الجراحة تقوم أولا على أن التداخل يتم وبدونه ليس من شفاء على نحو قاطع وبعد دراسة مستفيضة للحالة، فهناك في الطب عفوا أشباه مجرمين، وأنا اجتمعت ببعض منهم، صحيح أنهم نوادر ولكنهم موجودون، يعرضون المرضى للجراحة إما للمال أو للتمرين أو للسمعة أو لكل هذا أو بعضه، ولهم الويل مما يصفون.
وما زلت أذكر ذلك الجراح الذي اجتمعت به يوما والناس تجول تلك المدينة الجبلية الصغيرة تضرب له الدف من المجندين لدعايته تنادي بأعلى الصوت: زايدة بغرزة غرزة بزايدة. أي أن الجراح البطل يعمل عملية زائدة دودية فقط بجرح من 1 سم بغرزة واحدة. وكان الناس يقفون أمام المرآة يتناظرون عن جرح جلبي الكبير والجراح الهمام أبو الجراحة بجرح يحتاج إلى مكبر لرؤيته. ربما لم يعمل جراحة على الإطلاق بدون فتح بطن بجرح سطحي فقد رأينا بعضها. ونحن الجراحين نعرف هذا اللون من الدجل، وحاليا لم يعد ثمة ثقوب وندب على الإطلاق بطريقة النوتس أي دخول البطن من الفوهات الطبيعية، والعبرة هي سلامة المريض، وهو ما حدث مع جراحنا الهمام حين فتح البطن عند حامل بضربة واحدة مالها من فواق فخرقت الرحم فنزفت وأجهضت وبدأ المخدر يركض كالمجنون بحثا عن الدم لإسعاف المريضة.. إنها قصص مأساوية في الأخلاق الطبية!
وأرجع إلى قصص الأطباء المشاهير كما بدأت به كلامي، وأنا لي شخصيا تجربة لا أنساها مع ابنتي الصغيرة التي كانت تشكو من ألم في أنفها. وذهبت بها إلى طبيب عملاق فوصف الصاد الحيوي الذي وصفته أنا فلم ينفع فرجعنا إليه فكان العملاق مشغولا لحسن الحظ فاجتمعنا بطبيبة مقيمة ليست عملاقة في الفن. فاهتمت وفحصت واستخرجت من أنف ابنتي قطعة بلاستيك تسد بها زجاجات العطر وكان قد راقها العطر فأخذت السدادة فسدت بها أنفها وهي لاتتحدث عما جرى، وهكذا فالاهتمام من الصغير يحل المشاكل والاستخفاف من الكبير لايقترب من حل المشاكل إلا بعدا، والله يصرف عن طريق الحكمة كل متكبر جبار.