ما زالت ذاكرتي تحمل حتى الآن تفاصيل اليوم الذي طلب فيه والدي أن أستعد لأن نذهب معا لإصدار بطاقة أحوال وجواز سفر، كان يوما فارقا في حياتي، أن أصبح بين ليلة وضحاها من مراهق تقتصر هويته الوطنية على بياناته في بطاقة العائلة إلى شاب مستقل بهوية وطنية خاصة وجواز سفر خاص، توجهنا صباح ذلك اليوم إلى مركز الأحوال المدنية بمحافظة صامطة، قام والدي بتعبئة نموذج طلب البطاقة وقمنا بختمه وتوقيعه من شيخ القبيلة وعدنا لمركز الأحوال المدنية بعد أن ألصقنا صورة شخصية في طرف النموذج وقام موظف الاستقبال بمراجعة النموذج ومن ثم وجهنا لمكتب المدير لتوقيع النموذج والعودة إليه، وما هي إلا دقائق معدودة حتى قام موظف بتصويري وتسليمي بطاقة الأحوال الأولى في حياتي، خرجت من إدارة أحوال صامطة وأنا أشعر بالسعادة والامتنان، سعيد ببطاقة الهوية وممتن لسهولة الإجراءات وسرعتها التي لم تستغرق أكثر من 3 ساعات، سرعتهم في إنجاز طلبنا لبطاقة الهوية الوطنية أتاح لنا ما تبقى من اليوم لأن نتقدم بطلب جواز السفر من إدارة الجوازات في جيزان، ولم نعد إلى البيت إلا وأنا أحمل معي بطاقة الأحوال وجواز السفر رغم أن كافة المعاملات كانت ورقية وتقليدية.
مضت الأيام وأنا مليء بمشاعر الامتنان لإدارة الأحوال المدنية، أنقل عنهم صورا إيجابية في كل مناسبة نتحدث فيها عنهم، التطويرات الأخيرة التي حدثت في الأحوال المدنية، والتي تابعتها في وسائل الإعلام زادت من انطباعي الجيد عنهم وشعارهم الجديد "أحوالكم أحوالنا" الذي زينت به مكاتبهم الجديدة التي افتتحت في مراكز التسوق وفي مواقع مختلفة من المدن تسهيلا على المراجعين زادني امتنانا لهم وفخرا بهم، ولكني لم أتبع حكمة سقراط التي جسدها في مقولته "تكلم حتى أراك" والتي قالها للشاب الذي تهادى أمامه مزهوا بلبسه ووسامته. كانت قيمة الشيء عند سقراط لا تتمثل في الإعجاب بالمظهر بل فيما يحسنه الشخص من قول أو عمل.
وهذا ما وقعت فيه عندما أهملت حكمة سقراط، أعجبت بتوسع الأحوال المدنية وبشعارهم الجديد " أحوالنا أحوالكم" ولكن أول مراجعة فعلية لهم كانت كفيلة بتغيير النظرة جذريا عن هذا القطاع الخدمي الذي تتسم معاملاته بالبطء والتأخير والتقليدية، بدأتُ تعاملي معهم بحجز موعد في مكتب "أحوال الأندلس مول" بمحافظة جدة من خلال موقعهم الإلكتروني، اتبعت تعليمات الموقع التي تؤكد على طباعة الموعد الإلكتروني وتعبئة النموذج وإرفاق صورة شخصية، ذهبت لهم متفائلاً بأن إجراءاتي ستتم على وجه السرعة التي عهدتها منهم عند إصداري لبطاقتي الأولى في صامطة، وخاصة أننا أصبحنا في عهد إلكتروني لم يحظ به مراجعو العقد الماضي، عندما وصلت استقبلني حارس الأمن بينما موظف الاستقبال كان مشغولا بخدمة مراجع آخر، بعد أن دقق حارس الأمن بياناتي طلب مني مراجعة الفرع الرئيس في حي الصفا، وعندما سألته لماذا؟ أخبرني بأنه لا يمكن تقديم الخدمة لك من هنا لأن بطاقة أحوالك السابقة دون بصمة، ولذلك يتوجب عليك مراجعة الفرع الرئيس، وحينها سألت موظف الاستقبال لماذا لم توضحوا ذلك في الموقع بدلا من أن أحجز موعدا وأحضر إلى هنا ومن ثم تقومون بتحويلي للفرع الرئيس؟ أليس كان من الأجدى أن توفروا الوقت والجهد على المراجع، رد علي باقتضاب: "هذا الكلام لا توجهه لي وجهه لوزارة الداخلية أنا فقط موظف استقبال لا علاقة لي بحديثك"، توجهت لمدير الفرع ووجهت له نفس السؤال فأجابني بنفس إجابة موظف الاستقبال التي لم تقنعني كمراجع، كانت ملاحظة بسيطة في الموقع الإلكتروني ستوفر عليه وقته وجهده، خرجت من مكتب الأحوال المدنية فرع "الأندلس مول" بجدة ومازلت حاملا معي الأمل بأني سأنهي معاملتي في الفرع الرئيس بحي الصفا الذي منيت فيه بخيبة كبيرة بعد أن طلب مني موظف الاستقبال لديهم تسليم نموذج الطلب ومراجعتهم بعد أسبوعين؟
أصابتني الصدمة وبصعوبة سألته من خلف المراجعين المزدحمين عليه "لماذا أسبوعين؟!" فرد ورأسه للأسفل مدققاً في أرواق مراجع آخر "يا خوي أوراقك مصدرها صامطة لازم نرسلها لهم وترجع" فقلت له بغضب: "أنا أستطيع أن أرسل أوراقي إلى كندا وتعود لي بعد 4 أيام، لماذا أسبوعين؟!!" فوفر على نفسه عناء الإجابة وقال: "ياخي روح للإدارة أنا مالي دخل" وبالفعل ذهبت لمساعد المدير الذي استقبلني بابتسامة، وشرح لي أن سبب التأخير يعود لسد كل الثغرات التي تؤدي للتلاعب في البطاقات وبأنه سابقاً كان يتم طباعة البطاقة فوراً من كافة مراكز الأحوال ولكن الآن يجب أن يرسل الطلب لمصدر الهوية ومن ثم ترسل للمركز الموحد في الرياض، ومن ثم تعود إليهم، أخبرته بأن تبريراته ليست مقنعة في ظل العصر الإلكتروني الذي نستطيع من خلال تقنياته الحديثة باختصار كافة المعاملات ومن خلال برنامج واحد بوسعة أن يربط صامطة بدومة الجندل وأن يربط القنفذة بالأحساء وأن يريح مراجعي الأحوال من طريقتكم التقليدية التي تعطل مصالح الموطنين التي ترتبط معظم احتياجاتهم في القطاع الصحي والفندفي والبنوك وغيرها بالبطاقة الوطنية، وخاصة أن حسابي في البنك لا أستطيع استخدامه قبل أن أستخرج بطاقة الأحول، رفع كتفيه وهو مبتسم وقال "الله يعينك هناك عائلات يأتون يشتكون عدم استطاعتهم استئجار فندق إثر فقدهم الهوية ولا نستطيع أن نفعل شيئا من أجلهم".
خرجت من مكتبه وأنا أفكر في طريقة لحل مشكلة حسابي البنكي المجمد وأحوالي "متبهدلة" إثر عدم قدرتي على مراجعة طبيب الأسنان الذي يلزمني في كل زيارة بإبراز الهوية وبطاقة التأمين الطبي تطبيقاً لتعليمات وزارة الداخلية، وقد استوعبت جيداً مغزى شعارهم "أحوالكم أحوالنا".