لقد أحسن رجل الأعمال السعودي عبدالله العميل صنعاً عندما استثمر في محميته الجميلة في جنوب أفريقيا التي توفر لزائريها كل أجواء المتعة والترفيه والاسترخاء وممارسة الصيد لكل هواة القنص من ذوي الدخول المتوسطة.

باختصار فإن محمية الـ"إف.إم" جعلت هواية القنص حقا للجميع، فلم تعد حكراً على البرجوازيين والأثرياء، ولا شك أن كثيرا من الأسر والعوائل السعودية تنفق في أوروبا والشرق الأقصى ودبي والمالديف من المبالغ أضعاف ما قد تنفقه في رحلة مختلفة عن الرحلات المتكررة والمتشابهة في جداولها وطقوسها.

هل يبدو أنني أسرفت في الثناء والمدح؟

أبداً ليس الأمر كذلك، وليس من رأى كمن سمع.. طيب هل يبدو أنني أسوق هنا لمحمية صديقي عبدالله العميل؟!

ربما يكون هذا صحيحاً إذا كان الأمر ينبع من منطلق دعم الاستثمار السعودي، لكن الحقيقة الأهم هو أن الأخ عبدالله لا يعلم عن هذه المقالة، ولم يطلع عليها قبل كتابتها، الأمر الآخر هو أن أفواجاً من محبي الصيد يأتون للزيارة والإقامة في هذه المحمية عدة أيام، وهم من دول الخليج وأميركا وإسبانيا لكن غالبيتهم من البيوتات التجارية الغنية، وقد وجدتها فرصة لتوسيع دائرة المنتفعين خاصة مع علمي بتدني الأسعار هناك وإدراك الفارق بعد تذوق الطعم المغاير لهذه النوعية الفريدة من السياحة غير الشائعة عندنا إلا لدى الصفوة!

ثم علي أن أقول إن عدم حماسي سابقاً للسفر إلى جنوب أفريقيا يعود لكوني سبقت لي زيارة ست دول في أفريقيا "بينها دول عربية" فلم أجد أن جنوب أفريقيا يمكن أن تضيف جديداً إليّ، لكن إغراء الصحبة مع الأصدقاء، وكذلك الدخول في تجربة جديدة وهي صيد الظباء والغزلان هو ما حفزني لذلك، لكنني في الحقيقة فوجئت بدرجة التحضر والتمدن هناك على خلاف ما هو سائد في معظم دول أفريقيا التي يستوطنها الفقر والتخلف والجريمة، ثم عليّ أن أقول كلاماً شاطحاً وهو أن الاستعمار الأبيض كان نعمة على كثير من هذه البلدان حيث أحال فوضاها إلى نظام، وشحوبها إلى اخضرار، وتخلفها إلى تحضر، ومعلوم أن كثيرا من البنى الأساسية للتنمية وكثيرا من الطرق في هذه البلدان العربية والأفريقية التي استعمرت هي من تركة هذا الاستعمار، وللأسف فإن معظم الدمار والفساد المشاهد لاحقاً في هذه الدول المستقلة هو مما جلبه المستقلون المستغلون من سكان البلد الأصليين، بل إن كثيرا من جماليات الطرق المعمارية وبعض الجسور الجميلة في القاهرة والجزائر والخرطوم وأديس بابا هي من هذه التركة، ولم تأت الثورات التي طردت المستعمر بالنتاج الذي كانت تتطلع إليه شعوب تلك الدول حتى إن بعض أهل تلك الدول صاروا يتحسرون على ما كان، وما أصبح كائناً اليوم.

لقد شدني ما شاهدته في جنوب أفريقيا للحديث عن هذه الجزئية التي يشوبها كثير من الحذر باعتبار أن فيها ثناء على الدخلاء المستعمرين، لكنه في الواقع ثناء ينطلق من ضرورة الإنصاف والعدل في القول طبعاً مع عدم إغفال الدور العظيم للثورة التي قادها المناضل الكبير مانديلا ومن وراءه من السكان الأصليين الذين انعتقوا من تلك العنصرية البغيضة، ربما لأن هذا المستعمر مكث هناك أمداً طويلاً، بل إنه لم يغادر على خلاف ما حدث في بعض البلاد المستعمرة عربياً، لكن هذا المستوطن الأبيض تخلى عن أكبر آثامه وهي العنصرية حتى أصبح الأبيض والأسود هناك قامات متساوية تحت مظلة القانون، ومن الثابت أن هذا المستوطن القادم من أوروبا والذي استقر هناك هو من جعل جنوب أفريقيا علامة فارقة في كل أفريقيا، بل سأكون أكثر وضوحاً وأذكر أنني لمست بعض التذمر من بعض التسيب والخلل الذي بدأ يستشري وينخر في النظام منذ التحول الديموقراطي الذي جاء بالسكان الأصليين للسلطة حيث بدأت المحسوبيات القبلية خاصة إذا علمنا أن قبائل الهوسا والزولو هي التي تشكل الأغلبية السكانية هناك وهي التي تنحاز إلى عروقها ربما أكثر من انحيازها للبرنامج الوطني الشامل.

ولهذا صار بعض السكان الأصليين يخشون كثيراً على بعض المكتسبات الحضارية التي جاءت خلال زمن الإدارة الاستعمارية، ولهذا أجد أحياناً أن الانحياز الزائد للوطنية يحمل بعض ملاح العنصرية والشوفينية، وأظن أن الأجدر هو فتح المجال للقدرات من كل جنس لأن اكتساب الخبرات من الغير هو إضافة وقيمة وكهذا في ظني - كمثال لما يحدث عندنا - تتكرر أخطاء الاندفاع للسعودة الكاملة، ولنا في أرامكو وإنجازاتها البنيوية قبل السعودة في المنطقة الشرقية خير مثال، والأمر نفسه ينطبق على كثير من إنجازات شركات المقاولات الكورية في المملكة ومشاريعها التي لا تتعثر ولا تتهتك بعد حين من الدهر كما صار يحدث عندما استلمت الزمام شركات وطنية من خلال مشاريعها التي تدار من بواطن الباطن وإن لم تتعثر فإنها للأسف الكبير تنفذ أكثرها على نحو من الغش والتطفيف الذي يصيبها بالإعاقة ويقصر عمرها.

أخيراً فإن جنوب أفريقيا تقدم نفسها للسائح بشكل جميل رغم ما يشوب هذا الجمال من انتشار بيوت الصفيح والسكن العشوائي الذي يكدر جمالية كثير من المدن هناك.

شكراً لجنوب أفريقيا التي جذبتني من حيث لم أتوقع، وشكراً للصديق عبدالله العميل، والشكر موصول لإخوتي المهندس أحمد العبدالكريم والمهندس عبدالمحسن الماضي والمهندس ناصر الضويان ورجل الأعمال خالد أبانمي ورجل الأعمال عثمان العبدالكريم لصحبتهم التي منحت هذه الرحلة عندي طعماً لا ينسى.