شهدت الساحة المحلية خلال الأيام الماضية أنشطة لافتة في مجال رعاية الطفولة، كالدورة التدريبية الأولى للأطباء والأخصائيين النفسيين المتعاملين مع حالات العنف وإيذاء الأطفال التي نظمها برنامج الأمان الأسري الوطني بالتعاون مع قسم الصحة النفسية في الشؤون الصحية بوزارة الحرس الوطني وإدارة الصحة النفسية في وزارة الصحة والجمعية الدولية للوقاية من إساءة معاملة وإهمال الأطفال ISPCAN. وكذلك الاجتماع الدوري للجنة الوطنية للطفولة الذي رأسه وزير التربية والتعليم ورئيس اللجنة الوطنية للطفولة الأمير خالد الفيصل, الذي وجه بتنفيذ جملة من المبادرات للعناية بالطفولة – كما نشرت صحيفة الوطن - كمبادرة حماية وإعلام الطفل. كما نُشر عن تعميم عاجل وزعته وزارة العدل على جميع المحاكم، شددت فيه على إعطاء الأولوية لقضايا الاعتداء على الأطفال وسرعة البت فيها، خاصة قضايا الاغتصاب والتحرش بالأطفال، لافتة إلى أهمية الالتزام بقرار المحكمة العليا في هذا الشأن.
في العشرين من نوفمبر عام 1989 تم التوقيع من قبل 191 دولة على اتفاقية دولية لحقوق الطفل, ويصادف اليوم العالمي لحقوق الطفل هذا التاريخ من كل عام, وأعلن في هذه الاتفاقية على عدة بنود وحقوق ينبغي أن يتمتع بها الطفل وتقّرها الدولة ويحققها له المسؤولون والآباء والمربون, كحقه في الحصول على جنسية واسم وتعليم وحماية خاصة من الإيذاء والاستغلال والإهمال الجسدي. وتحتفل الأمم بهذه المناسبة كل عام عن طريق المساهمة في مبادرات وحملات توعوية لحماية حقوق الطفل وتمكينها حول العالم.
جميع هذه الأخبار المحلية والدولية عن رعاية الطفولة وتسخير الإمكانيات الحقوقية والتربوية لهذه الشريحة الكبيرة في المجتمع خلال فترة مهمة في حياة الإنسان وهي مرحلة الطفولة من سن الولادة حتى الثامنة عشرة من العمر والتي تتشكل فيها ملامح شخصيته ويتشرب خلالها قيمه ومبادئه في الحياة, جميعها تصب في صالح الطفل/المواطن مستقبلا. وأي إيذاء أو إهمال أو تصرف ربما يراه الفرد الكبير لا يلفت الانتباه قد يُسبب شرخا في صحته النفسية ويؤثر على اتزانه العاطفي وربما الجسدي. فالطفولة السليمة تعني مستقبلا أكثر استقرارا وأمنا اجتماعيا ونفسيا، وهذا مدعاة لتشكيل مجتمع متزن يعي حقوقه وواجباته.
من هنا يتبادر تساؤل جوهري: هل قدمنا للطفل في مجتمعنا السعودي ما ينبغي وما يستحق من اهتمام وحماية؟ وهل تبنت مؤسسات المجتمع المعنية والوزارات ذات العلاقة مبادرات حقيقية وفاعلة بعيدة عن البيروقراطية والواجهات الإعلامية البراقة؛ لتأخذ بيد تربية الطفل منذ سن مبكرة وتهيئته نفسيا واجتماعيا وتربويا ليكون قادرا على قيادة هذا الوطن مستقبلا باتزان وثقة؟
منى طفلة في التاسعة من عمرها, عيناها تتوهجان بمرح طفولي أخّاذ, تزين الوقت بابتسامة نابعة من نقائها وبراءتها. ألتقيها كل مساء منذ ما يزيد على الشهر في أحد مرافق المدينة العامة, تقف أمام مجموعة من قوارير الماء والعصائر وحافظات خاصة بالمشروبات الساخنة والأطعمة. يمر من أمامها العشرات من النساء والأطفال والرجال فتبيع عليهم من معروضاتها بأسعار زهيدة مع ابتسامة مجانية, وتبقى على هذه الحال منذ بداية ساعات العصر الأولى حتى مغيب الشمس. قد يتشارك معها شقيقها الأكبر سنا في ساعات الجلوس للبيع أو ينوب عنها في إحدى الأمسيات. سألتها في إحدى المرات هل تتمنين أنك تلعبين كالأطفال الراكضين أمامك أو الوقوف أمام بضائع عائلتك من المأكولات؟ أجابت بجزم واضح بأنها تتمنى اللعب. فمازحتها بأنني سأشتري كامل بضاعتها وتنصرف هي للتنزه, فقالت بلكنة عسيرية تشوبها الطفولة والخوف: "والله أن "يجلدني" أبي إذا ما بعت!".
على امتداد رصيف منى نفسه نجد جلال وفهد وغيرهما, وفي الطرق المتفرعة – خاصة مع حلول موعد الصيف وازدياد الزوار لأبها- نجد هنا طفلا يحمل بعض الأوراق العطرية لبيعها، وآخر بجوار ثمار فواكه الصيف وآخر مع كومة خرداوات للرحلات. يقفون تحت الشمس وسط مناخ لا يُتنبأ به، ويمر بهم عدة أشكال وأمزجة من البشر والتعامل الذي لا نعلم كيف يترك أثره على أنفسهم. ولا أظن أن هؤلاء الصغار يقفون بمحض إرادتهم هذا الموقف، بل بترتيب وأمر من أولياء أمورهم, وإن كانت بعض مقاصدهم ونواياهم حسنة كتعويد الطفل على تحمل المسؤولية أو المساعدة في رفع دخل الأسرة إلا أن هذا الشيء يُصنف ضمن تشغيل الأطفال تحت السن القانونية المسموح بها دوليا.
جاء في المادة التاسعة من إعلان حقوق الطفل العالمي: "لا يجوز استخدام الطفل قبل بلوغه سن الرشد، ويحظر في جميع الأحوال حمله على العمل أو تركه يعمل في أية مهنة أو صنعة تؤذي صحته أو تعليمه أو تعرقل نموه الجسمي أو العقلي أو الخلقي". فمن حق هؤلاء الأطفال الاستمتاع بكامل طفولتهم، وألا يبقوا لساعات تراقب أعينهم بحسرة أترابهم اللاهين أمامهم وهم مشغولون بجمع الريالات القليلة لأسرهم, وعلى البرامج والجمعيات المعنية بحماية الأسرة والأطفال أن تتبنى مبادرة تحمي الأطفال الباعة ممن يقسو عليهم وربما "يجلدهم" حتى يؤدوا هذه المهمة.