"مشيع"، روح الخصوبة، وعبير الطين وساقية النهار الطروب، حين تمسح الشمس حوافيها فوق الجبال الشرقية لمدينة أبها، تورق أفياء الشجر، وستائر الأفق ورفرفات الحقول المغسولة بالصبا المفعم، وضفائر الطمي المعشب، يخيل لك أن هذه القرية حنجرة الأرض وقصائد الغناء، وحورية الحكايات التي لا تموت، تمد ساقيها الناعمتين بين الريف والمدينة، بعد اختراق "الحزام" لجسدها الغض ليشطرها إلى نصفين، لم تغضب ولم تفقد شيئاً من عذوبتها الفريدة، وكحل عينيها الدافئتين.

ورد اسمها كثيراً في قطرات وذكريات معالي الصديق الأديب عبدالرحمن بن محمد السدحان، الأمين العام لمجلس الوزراء، فهو يقول عنها: "مشيع قرية وادعة رابضة على ضفاف وادي أبها، حافلة بأشجار الفاكهة، وحقول البر والذرة والشعير، سقاها وعثريها"، فلا تزال هذه القرية الوارفة تحتل متسعاً من قلب السدحان وطفولته وأشواقه وحنينه كما وردت في سيرته الذاتية.

بالأمس حضرت احتفالية أقامها رجالات وأبناء هذه القرية الخضراء، تهدف إلى تعزيز وتحفيز وتشجيع "أبناء وبنات" القرية من المتفوقين والنابهين والمبدعين "منهم ومنهن" في مجالات تحصيلهم ونبوغهم العلمي، كنت أرسل نظري بين الوجوه الحنطية التي أبصرتها ذات زمن وهي تنحدر لحقولها مع زرقة الفجر كأسراب الغيوم، وتعود مساء مطيبة بشمس الظهيرة وتباريح الغروب، بينما يقف في الطرف الآخر من مراسيم الاحتفال، جيل المسرات ومصابيح الغد، وعطر الميلاد ومفاتيح المستقبل وأعراس السنابل في ليالي عرسها، ينتصبون كالأمل على عرش حكمتهم، فهم أبناء اللحظة وفاتحة الضوء وأبجدية الربيع الذي سيغمر الوطن بالأفراح والأعياد والأحلام الباذخة، قدم شاب منهم وبكل جرأة فيلماً تسجيلياً بعنوان: "الدكة"، يروي صورتين متناقضتين عن حواضن المجتمع قديماً، والذي ينتصر لعلائق مجتمع الأمس، وما فيه من صور المحبة والإلفة والحميمية، ومجتمع اليوم وما فيه من مشاهد الفرقة والاختلالات المجتمعية، والافتكاك الضاغط بين مكوناته ووشائجه، تحت مطارق المادية وتعقيدات الحياة، حضر الاحتفالية شيخ قبيلة بني مغيد علي بن سعد بن مفرح، وقد امتدح هذه الفكرة الرائدة وباركها، وشكر كل القائمين عليها من رعاة ومشرفين ومنظمين، من أبناء هذه القرية وبناتها.

كم أتمنى تعميم ونشر هذه الفكرة التي نهضت بها "جماعة مشيع"، نظراً لما لها من مدلولات وتشجيع وضخ للقدرات في أبنائنا، حين يزهون باعتلاء المنصة وينعمون بالتقدير الذي يستحقونه، وليرتفع منسوب الوعي العلمي والأدبي والتحصيلي لديهم، فقد لمع على هامش ذلك المساء المبهج، المقدم والشاعر والمخرج والمنظم والممثل، ولمست فرحة الآباء ونشوة الإحساس الراكض في دواخلهم وهم يلمسون ثمرة تعبهم الجميل.