لطالما كان الفساد مرحلة لاحقة في المسيرة الوظيفية، طبعاً لأولئك الذي يسقطون في مستنقع الفساد برغبة منهم أو نتيجة الظروف المحيطة، لكن الأسوأ من كل ذلك هو: استمراء هذا الفساد! ومحاولة إيجاد مخارج شرعية "دينية" له، سواء كان فساداً مالياً أو إدارياً أو حتى أخلاقيا! وتلك معضلة أخلاقية ونفاق اجتماعي يقود إلى مشاكل أكبر، ويحتاج الحديث عنها إلى مجلدات طويلة.

أسباب كثيرة قد تقود إلى الفساد، لكنها جميعًا تتقاطع في أسبابها الأولية، فضعف العدالة الاجتماعية بكافة صورها ومستوياتها يؤدي إلى تضخم عقدة "الأنا"، وبروز آلية المقارنة مع الآخرين وخصوصًا القرناء، كما أن ندرة الفرص الوظيفية وتدني المقابل المادي رغم ارتفاعه لآخرين يؤديان بالنهاية إلى القبول بالفساد؛ ولكن على مراحل متدرجة.. أما القول إن الوازع الديني قد يحمي البعض؛ ففيه كثير من المثالية غير الواقعية، فالفساد ليس محصورًا بالفساد المالي وسرقة المال العام، بل يتجاوز ذلك إلى الاستفادة المباشرة وغير المباشرة من المنصب الإداري والنفوذ الوظيفي، فالواسطة والحصول على امتيازات إضافية نوعان معتبران من الفساد، بل إنهما قد يؤديان بالمتضرر منهما إلى أن يغرق في فساده بشكل أكبر، ومن المعلوم أن ارتفاع الراتب الشهري يعد أحد أهم الوسائل في مكافحة الفساد، كما هو مشاهد – حالياً- في كادر القضاة بالمملكة، ومؤخرًا في الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وغيرهما من الكوادر الوظيفية. ولك أن تتخيل –عزيزي- مفتشاً شاباً في جهة حكومية ما يتقاضى ما لا يزيد عن 4 آلاف ريال - أي ما يزيد عن الألف دولار أميركي بقليل- يفتش على منشأة تتعامل بالملايين، ومفتشها يرزح تحت ضغط الديون وضعف المقابل المادي.. فإلى متى سوف يقاوم هذا الإنسان البسيط هذا الضغط الشديد؟

والقصة تبدأ دوماً بابتسامة سريعة، ثم هدية لا تكاد تذكر، بعد ذلك تتسارع الوتيرة، خصوصًا عندما يكون لدى الفرد استعداد نفسي للدخول في مستنقع الفساد، وتصبح القصة أكثر إثارة حينما تكون الثقافة الغالبة في المؤسسة التي يعمل بها هي ثقافة فساد القيادات العليا وغياب الرقابة والمتابعة، هنا يبدأ هو بالبحث عن آليات للفساد الفردي.. فسادٍ على مستواه هو فقط... وتتداخل هنا عدة عوامل منها الموقع الوظيفي ومدى حاجة الفرد، ثم بعد ذلك مدى سرعة تنامي نهمه للأموال السهلة، والقادمة بسرعة من مصدر الفساد، دون إغفال غياب الرقابة والمتابعة من القيادات الإدارية.

كما أن إحدى الأسباب المحفزّة على الفساد غياب "الحرية الصحفية"، وتعطيل آليات السلطة الرابعة، ذلك لأن أحد أهم وظائف الصحافة ووسائل الإعلام بشكل عام ما يطلق عليه في أدبيات علوم الاتصال: بـ"كلب المراقبة Watch dog"، ما يعني مراقبتها لما يدور في المجتمع ومتابعة أداء ووظائف مؤسسات المجتمع الأخرى، لذا فإن غياب التغطية الصحفية الصريحة لقصص الفساد خوفًا من الرقيب أو حتى المعلن يؤدي لتفريغ الصحافة من أحد أهم أدورها، والشواهد متتالية في قصص صحفية كان لها دور كبير في الحفاظ على المال العام، وتقديم المفسدين والمقصرين إلى مقصلة العدالة، ناهيك عن أن توالي كشف قصص الفساد سوف يجعل المفسدين ومن يقف وراءهم من المتنفذين يترددون كثيراً قبل قيامهم بأي مغامرة أخرى.

من جهة أخرى ثبث أن العلاقة عكسية بين مستوى ارتفاع الحرية الصحفية وانخفاض مستوى الفساد المؤسسي، كما هو ملاحظ في الدول الاسكندنافية، فالرقابة المستقلة خير وسيلة للقضاء على المفسدين ومن على شاكلتهم. والحل يكمن بالاستثمار في قنوات الإعلام الجديد، وتعميم مفاهيم "صحافة المواطن" Citizen Journalism، فهذا المسار المستقل من الصحافة يسهم بتسليط ضوء مرّكز على قصص الفساد، ويفضح الفاسدين على رؤوس الأشهاد، تلكم الممارسة الصحفية الشعبية ساعدت وسائط التواصل الاجتماعي على مضاعفة أثرها بشكل لا يمكن تصديقه قبل سنوات قليلة.

دون إغفال المدونات الشخصية، التي قامت بلعب دورٍ رائعٍ في الدول الغربية في مجال فضح الفساد، وإيصال صوت من لا صوت لهم، والأهم من ذلك القدرة على التواصل مع المتضررين من الفساد أنفسهم مباشرة، مثلما يقوم موقع: "الأصوات العالمية Global Voices"، الذي يعتبر من المواقع الشهيرة التي تدافع عن المدونين في العالم وتوصل حديثهم إلى كل مكان، فمتى يكون لدينا مثل هذا الموقع المميز. ولعلي هنا أشير إلى تجربة سعودية تستحقق الثناء والتقدير، وهي: موقع "بورصة الوعود السعودية" www.3addad.com، وهو موقع يكافح الفساد بطريقة مبتكرة، من خلال تسجيل وعود أي مسؤول سعودي في أي وسيلة إعلامية، ومن ثم إطلاق عدّاد لهذا الوعد حتى التاريخ الذي حدده المسؤول، مما يجعله وسيلة ضغط خلاقة على المسؤولين تجاه تنفيذ أعمالهم. ونحن – بالتأكيد- بحاجة ماسة لمبادرات أخرى متعددة في مجال مكافحة الفساد والرقابة على الشأن والمال العام، والأمل معقود بالشباب من أبناء وبنات الوطن للحفاظ على مكتسبات وطنهم الغالي.

وبعد فقد يستمر البعض في فساده، لكن البعض كذلك قد يعود إلى صوابه، وقد يفيق ضميره من جديد، فلابد من وجود آلية تشجع على العودة إلى فسطاط الحق، الجميل في الأمر بالمملكة هو وجود حساب بنكي يطلق عليه "حساب إبراء الذمة" ببنك التسليف والادخار تحت إشراف وزارة المالية، يستقبل الأموال التي أخذت دون وجه حق، دون محاسبة قانونية لمن يعيدها، خصوصاً وأن كثيرا منها قد أخذ بطرق ملتوية لا يمكن إثباتها أو معاقبة سارقيها، ويتم الاستفادة منها لتسليف المواطنين وإقراضهم بالقروض الحسنة، والجدير بالذكر أن الحساب قد تجاوز ما استقبله قبل سنوات 264 مليون ريال سعودي حتى الشهر الماضي "أبريل 2014"!

وبعد فالكثير من المقالات والأصوات تحدثت عن الفساد والمفسدين، وطرحت الكثير من الأفكار والرؤى، ولكنها جميعاً تبقى ضمن إطار الأماني والأحلام ما لم تتحرك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بشكل جدي وحقيقي، وأن تقضي على أسباب الفساد أولاً، جنباً إلى جنب مع ملاحقتها للمفسدين أنفسهم.