كشفت إحصائية صادرة عن وزارة المالية، عن ارتفاع المصاريف السفرية في الجهات الحكومية للسنوات الخمس الأخيرة، حيث بلغت في عام 1428هـ ما قيمته مليار ريال، ولترتفع في عام 1434هـ إلى (1.5) مليار ريال، أي بزيادة تصل إلى ما نسبته (50%)!.
وعلى هذا الأساس، طالبت الوزارة الجهات الحكومية بضرورة ترشيد الإنفاق والحد من النفقات السفرية، والسؤال المطروح هنا: هل تم بالفعل ترشيد الإنفاق في هذا المجال؟ وأين تكمن المغالاة في المصاريف السفرية؟
من عادة البيروقراطية أنها تقوم بتنفيذ توصيات وزارة المالية، وتقوم بتقليص الانتدابات ومهام العمل بالنسبة للموظفين في الإدارات التنفيذية، وربما بالغت في ذلك إلى حد تحقيق وفر مالي في مخصصات المصاريف السفرية، لتعطي انطباعاً عنها بأنها حققت المطلوب منها بكل نزاهة، ولكنها تقوم في الوقت نفسه بإجراء مناقلات مالية بين بنود الميزانية إلى بند المصاريف السفرية، وذلك لتمويل نفقات سفريات سعادة الرئيس الإداري وكبار الموظفين في الإدارات العليا!
في بعض الجهات الحكومية يتحدث الموظفون عن إهدار ملايين الريالات على سفريات المسؤولين وكبار الموظفين بها، والبعض يلقب الرئيس الإداري بـ"ابن بطوطة" أو "الرئيس الطائر" لكثرة أسفاره ورحلاته الدولية، ففي حين تشتكي بعض الجهات الحكومية من قلة الاعتمادات المالية، عندما يتعلق الأمر بحقوق موظفيهم، أو استحقاقاتهم للغير، إلا أن هذه القاعدة تنكسر عند سفر المسؤولين التنفيذيين، إذ سرعان ما تهبط الأموال من السماء، ويقلعون نحو العالم مرتاحي البال.
فبالرغم من القناعة إلى حد كبير بأن هذه الأسفار لا تتعلق بالعمل، ولا تتطلب طبيعة العمل تلك الأسفار، إلا أنه لا يوجد دليل يقطع به هذا الشك، إذ تحرص بعض الجهات الحكومية على التضليل بشتى الطرق لتبدو أن هذه السفريات نظامية.
فعند تقدير بنود المصاريف السفرية في الميزانية، يكون بناءً على طبيعة أعمال الجهة الحكومية والتي قد تتطلب مهام سفرية لموظفيها في داخل وخارج المملكة، وربما تم تقديرها إلى أقل التكاليف لتبدو معقولة ومنطقية، ثم تقوم بزيادة تقديرات المخصصات الأخرى مثل مصاريف التدريب ومصاريف الأبحاث العلمية، وهنا يتم طمس أي شك حول تمويل نفقات سفريات الرئيس أو المدير الإداري.
فكما ذكرت آنفاً يتم اللجوء إلى إجراء المناقلات بين بنود الميزانية، فيتم النقل من مخصصات التدريب وكذلك الأبحاث العلمية إلى بند المصاريف السفرية، وفي الحساب الختامي تبدو هذه المصاريف كمصاريف عادية تتطلبها طبيعة أعمال الجهة الحكومية.
وعند سفر الرئيس الإداري إلى الخارج، يكون المبرر النظامي لذلك أنه تم بناءً على دعوة رسمية لحضور مؤتمر أو ندوة، أو المشاركة في أعمال لجان دولية، وبالطبع فإن مثل هذه المؤتمرات لا تتطلب إلا مشاركة رمزية أو الاطلاع على التجارب الدولية وتبادل الخبرات، وبالتالي لا تتطلب حضور مسؤولين من الإدارات العليا، وبالنسبة للجان فإنها تتطلب حضور متخصصين في مجالات معينة غالباً ما يكونون من الموظفين في الإدارات التنفيذية.
وبناءً على ما سبق، يقوم الرئيس أو المدير الإداري باختيار الوفد المرافق له من سكرتير المكتب، وأحد المعاونين له ومن يعزّ عليه من الموظفين المقربين بالإضافة إلى أحد المتخصصين ليقوم بالمطلوب نيابةً عنه في المؤتمر أو اللجنة.
وإذا كانت الأنظمة والتعليمات تعطي أياماً معينة في الانتداب لأجل السفر، كإعطاء يوم أو يومين لأجل الرحلة، فإن الرئيس الإداري يأخذ الحد الأقصى من الأيام، فإذا كانت مدة المؤتمر أو أعمال اللجنة لا تتجاوز يومين على سبيل المثال، فإن الرئيس يحصل على خمسة أيام قبل انعقاد المؤتمر، وخمسة أيام بعدها، ليصبح مجموع أيام السفرية (12) يوماً، وعليه قد تتكرر سفريات الرئيس لأكثر من (7) سفريات في العام الواحد خارج المملكة، وبالطبع فإنه في مثل هذه الحالة لا يحتاج إلى إجازة اعتيادية لأنه يعطي انطباعاً عاماً بأنه يضحي بصحته وبوقته وراحته من أجل العمل!
أمثال هؤلاء الرؤساء بطبيعتهم يميلون إلى المركزية ويتصفون بالازدواجية في ممارسة العمل الإداري، لذلك فإن أكثر القرارات والمعاملات لا بد أن تمر بمكتبه، وأن تصدر بتوقيعه، وبالتالي فإن مثل هذا الوضع، فإن غالبية الموظفين لا يملكون عادة التصرف في أكثر الأمور حتى عودة الرئيس، فتتكدس التقارير والمعاملات على مكتبه، في حين أنه تتم معاقبة الموظف الصغير لتأخره في إنجاز المعاملات لأكثر من يومين، وفي الغالب يكون الموظفون في مثل هذه الجهات غير مستائين من هذا الوضع لأنهم أيضاً في إجازة جماعية ضمنية غير معلنة!
مما سبق يتضح حجم تكاليف السفريات، والأسباب الحقيقية التي تقف وراء تضخمها في بعض الجهات الحكومية، فهناك تكاليف مباشرة تتعلق بمصاريف تذاكر الطيران ومصاريف الإقامة في أفخم الفنادق للرئيس والوفد المرافق له، وهناك تكاليف غير مباشرة تتعلق بتأخر إنجاز الأعمال في تلك الجهات، ناهيك عن تشويه سمعة المملكة في الخارج نتيجةً لهذا البذخ البيروقراطي، فمعظم المؤتمرات واللجان لا تتطلب حضور مثل هذه الوفود، وإنما يكتفى بحضور شخص أو اثنين من المختصين وبالتالي يمكن تفادي مثل هذه التكاليف.
ورغم أن هناك تعليمات مشددة فيما يتعلق بسفر المسؤولين تؤكد على أن تقتصر الزيارات والسفريات على الأمور المهمة والملحة وما يستلزم حضور المسؤول شخصياً، وما عدا ذلك فيكتفى إذا لزم الأمر بإرسال أهل الاختصاص وإعطاء الفرصة أكثر لجيل الشباب في الإدارات التنفيذية، بالإضافة إلى مطالبة وزارة المالية بترشيد الإنفاق في هذا المجال، إلا أن المهمات السفرية تحولت إلى رحلات سياحية وترفيهية لبعض المسؤولين بحجة أنها ضرورية وملحة، لذا فإن الأمر يحتاج إلى وضع ضوابط رقابية من قبل وزارة المالية على المصاريف السفرية بالنسبة لكبار الموظفين والمسؤولين.