في يومي التاسع والعاشر، من هذا الشهر، عقدت المنظمة العربية لمكافحة الفساد، التي تتخذ من مدينة بيروت مركزا لها، ندوتها السنوية، في فندق كراون بلازا، والواقع في قلب المدينة، بشارع الحمراء الشهير. وقد حملت هذه الندوة عنوان: "الفساد وإعاقة التغيير والتطور في البلدان العربية"، وقد كان لي شرف حضور هذه الندوة، والمشاركة في المناقشات الثرية التي شهدتها.
انطلقت هذه الندوة، كما في سابقاتها من الندوات التي عقدتها هذه المنظمة، من تعريف أولي، لكنه عميق لمفهوم الفساد باعتبار أنه "كل استغلال أو اكتساب غير مشروع، أو ليس على وجه حق، لعنصري القوة في المجتمع: المال والسلطة السياسية.
هذا التعريف، ربما يتأثر باهتمام صاحب الاختصاص العلمي، فيختلف القانوني عن عالم الاجتماع أو الاقتصاد، حول الأولويات التي ينبغي التنبه لها، من أجل تحصين البلاد، وحمايتها من هيمنة الفاسدين. إلا أن القواسم المشتركة حول تعريف الفساد، تظل قريبة من الفهم المشترك. فكل مؤسسة أو مشروع أو نشاط، من أي مكون في المجتمع يصيبه الفساد، يحرفه عن الهدف الذي وجد من أجله، ويحد من فعاليته وقدرته، على بلوغ أهدافه.
لقد مرت البلدان العربية، في العقد الأخير، بتحولات دراماتيكية كبرى، بدأت باحتلال العراق. وكانت أحد مبررات العدوان، هي محاربة نظام استبدادي، ليس للعراقيين قول في صناعته، وأن ما سوف يأتي بعده سيكون عراقا جديدا، يمثل واحة للديموقراطية، وأنموذجا تحتذي به بقية الأقطار العربية. فكانت النتيجة، أن النظام الموعود، لم يأخذ مكانه، وأن ما برز على أنقاض النظام القديم، هو نظام قسمة بين الطوائف والأقليات القومية. وكان ذلك من الأسباب المباشرة في استفحال ظواهر الفساد في النظام السياسي، الذي جاء محمولا، مع قوات الاحتلال الأميركي لأرض السواد.
واليوم نرى تنافسا شرسا، بين المركز وبين حكومة أو حكومتي الشمال العراقي، حول ثروات العراق النفطية، وكل يطمح في مضاعفة مكتسباته من الثروة والمال، على حساب الأغلبية الجائعة من العراقيين.
والحال هذا لا يختلف عما جرى في البلدان التي طالها ما يعرف بالربيع العربي. فحتى هذه اللحظة، غاب مفهوم دولة المواطنة، وتفككت الكيانات الوطنية. وتحولت أهداف الشباب اليافعين، الذين سيطروا على الميادين، وكان حلمهم في دولة مدنية، خالية من الفساد والاستبداد، إلى صراعات بين قوى التطرف، بلغت حد اختطاف وزراء ورؤساء حكومة، والخاسر في هذه العملية، هم شعوب هذه البلدان، والأمن القومي العربي، الذي أصبح مهددا، بسبب استفحال ظواهر التطرف، بمسمياتها المختلفة.
ورغم أن عنوان الندوة، موضوع حديثنا هذا، قد أشار إلى الفساد كأحد معوقات التغيير، لكن ذلك غير دقيق بالمطلق. فالفساد لم يخلق من العدم، ولكنه النتيجة الطبيعية لسيادة الفوضى، وضياع هيبة الدولة، وتفكك الكيانات الوطنية. واعتبار الفساد أحد معوقات التغيير، دون ربط بروزه بما جرى من ابتزاز وعمليات سياسية، ومتغيرات دراماتيكية، أو سلطة إلى السلطة، في عدد من البلدان العربية، نظما تفتقر إلى النزاهة، ولا تؤمن بالقضية الوطنية، وترى في رسالتها العالمية، غير واضحة المعالم، بديلا عن الانتماء للأرض قد ضاعف من الهجمة على ثروات البلاد، وأسهم في نهبها بشراسة غير معهودة.
وليس من شك، في أن الفساد الآن، كما كان دائما، هو من أهم معوقات التطور، وتعطيل النجاح في حل الأزمات وتذليل الصعوبات، التي تواجهها البلدان العربية، التي تنعكس بالتالي على مصالح الناس.
وفي سياق، الأحداث الأخيرة، بالوطن العربي، يستحيل التعامل مع هذه الظاهرة، بهدف تقليصها والقضاء عليها، من غير وعي ما للتدخلات الخارجية، من أثر واضح في إعاقة نشوء الكيانات الوطنية مجددا، الكيانات التي فككت منهجيا، بسبب تدخلات إقليمية ودولية. وينبغي في هذا السياق، عزل ما يجري في تلك البلدان، عن التأثير في بقية البلدان العربية. فعلاقة العرب مع بعضهم، في جوانب كبيرة منها، هي علاقة الأواني المستطرقة، يتأثر كل جزء، سلبا أو إيجابا، بما يجري حوله من تغيرات.
ومن هنا تأتي أهمية وضع المتغيرات التي جرت بالبلدان العربية التي مر عليها "الربيع العربي"، في سياق تاريخي وموضوعي، فذلك هو الذي يجعل المجهر كبيرا في معرفة ما يجري من انهيارات، ومن انتشار للفساد في تلك البلدان.
ركزت ندوة الفساد على أربعة محاور هي على التوالي: الجانب القانوني والقضائي، والجانب الاقتصادي والمالي، والجانب الأمني، وآخرها دور النخب المثقفة في قيادة وتوجيه المجتمع، لمحاربة ظواهر الفساد.
في المجال القانوني، ناقش المحور دور السلطة التشريعية، وركز على أهمية اختيار المسؤولين الصالحين، واتفق كتاب الأوراق المقدمة للندوة، على أن الأهمية لإصدار قوانين مكافحة الفساد لا تكمن فقط في هذه القوانين، ولكن في وجود الإرادة السياسية لتطبيقها على كافة الصعد. وهذا ما تذهب له العبارة المعروفة: العبرة ليست في النصوص. واشترط لنجاح تطبيق القوانين، وجود قضاء كفء ومستقل ونزيه، باعتبار ذلك هو أساس الحكم الصالح، وضمان العدالة.
وأوصت الندوة، بتطوير النظام الاقتصادي العربي، والتحول إلى أنظمة إنتاجية. إن ذلك يتطلب إعادة النظر بالسياسات المالية للبلدان العربية، ومدى تأثرها بالفساد في صياغتها، وعلى الأخص، ما يتعلق بالنظام الضريبي، وعدالة وفعالية تحصيل الضرائب، والأضرار التي لحقت بتلك البلدان العربية، جراء تلك السياسات.
محاور كثيرة أخرى، تناولتها الندوة، ليس بالمقدور تناولها في هذه العجالة، لكن المؤكد أنها ستضيف كثيرا، بالتراكم للمكتبة العربية، بما يسهم في إيجاد وعي أعمق لسلبيات هذه الظاهرة. والأهم في هذه المرحلة هو تجاوز تبعات ما جرى من انهيارات في الجسد العربي، وتجديد العمل المشترك، والالتزام بالمعاهدات والمواثيق، بما يسهم في خلق مجتمع عربي، أكثر أمناً، ولتكون لمحاربة الفساد والاستبداد سياقاتهما الصحيحة.