هذا المقال يهدف لاستعراض الموقف الثالث من المواقف التي تعرّضت لمشكلة حرية الإرادة والحتمية، وهو الموقف التوفيقي أي الموقف الذي يقول بأن حرية الإرادة يمكن أن تتحقق في عالم حتمي. قبل هذا يبدو أنه من المفيد أن نستعرض مجددا مشكلة حرية الإرادة في صيغة من الصياغات المشهورة لها:

أولا: بعض الأفراد في بعض المواقف كانت لديهم القدرة على التصرف بشكل مختلف عما تصرفوا به فعلا. ثانيا: التصرفات أحداث. ثالثا: كل حدث له سبب. رابعا: إذا كان الحدث مُسببا فلا بد أن يكون السبب حتميا. خامسا: إذا كان السبب حتميا فإن الفرد لم تكن لديه القدرة على أن يقوم بخلاف ما قام به. المشكلة في الصياغة السابقة في التناقض بين المقدمة الأولى والنتيجة في فقرة خامسا. المقدمة الرابعة هي عامل جوهري في المشكلة وهي ما تعرف بمقولة الحتمية. الحتمية يمكن صياغتها كالتالي: حقائق الماضي بالإضافة لقوانين الطبيعة تقرر كل حقيقة في المستقبل. أصحاب المذهب التوفيقي الذين هم موضوع حديثنا اليوم يعترضون على المحاججة السابقة ويجادلون أن الحرية ممكنة داخل عالم حتمي. هنا بعض من أطروحاتهم الرئيسة.

الأطروحة الكلاسيكية للتوفيقية والتي يمكن أن نجدها عند هوبز وهيوم اشتراطاتها بسيطة جدا. لكي يكون الفعل حرا فإنه يجب أن يكون متوافقا مع رغبة الشخص. بمعنى أنه لا يشترط لكي أكون حرا أن أكون قادرا على تغيير قوانين الكون أو الخروج عليها بل أن أتحرك داخلها. الفرد هنا قدرة داخل قانون الطبيعة. ما يجب علينا التأكد منه هو ألّا تكون هناك قيود قاهرة تمنع الفرد من القيام بما يريد. الاعتراض الذي يمكن أن يوجه هنا هو هل هذه الصورة تحتمل قدرة الفرد على فعل البديل مما يعني أن يكون فعلا حرا في اتخاذ قراره. يرد التوفيقي هنا بالتأكيد باعتبار أن الحتمية تربط ما يحدث في المستقبل بما يحدث في الماضي. بمعنى أن أي تغيير في الماضي يعني تغييرا في المستقبل. هنا نجد أن الشخص الذي اختار مثلا أن يشتري السيارة السوداء بدلا من السيارة الحمراء يمكن أن نتصوّره في مشهد آخر يتخذ فيه قرارا في الماضي يجعل من الحدث المستقبلي هو اختيار السيارة الحمراء بدلا من البيضاء.

هذه الصورة الكلاسيكية تم تحديها بشكل أكبر من قبل أطراف متنوعة. علميا تطورات علوم الدماغ تشير إلى احتمال كبير أن يكون الدماغ يعمل وفقا لقانون معقد ولكنه حتمي يجعل من قرارات الفرد مفهومة دون اللجوء لأطروحة حرية الإرادة. كذلك تم تحدي الصورة الكلاسيكية من قبل محاججة فرانكفورت الشهيرة، التي تشير إلى عدم ارتباط المسؤولية الأخلاقية مع القدرة على فعل البديل. إذا كنا لا نحتاج حرية الإرادة لنحصل على المسؤولية الأخلاقية فمشروع التوفيقيين يفقد جزءا كبيرا من معناه. بمعنى أننا، بحسب فرانكفورت، يمكن أن نتخيل شخصا لا يملك القدرة على اتخاذ البديل ومع ذلك نعده مسؤولا أخلاقيا. المشهد هنا أن "جونز" يقوم بجريمة يريد القيام بها رغم أن في دماغه جهازا سيجبره على فعل ما فعل لو غيّر رأيه. لكن جونز لم يغير رأيه وبالتالي فهو فعل ما يريد بدون أي تدخّل وهو بهذا مسؤول أخلاقيا. قد نعود لمحاججة فرانكفورت لاحقا لكن المهم هنا هو ردود التوفيقيين على هذه التحديات.

من أشهر الردود على هذه التحديات أطروحات دان دينيت، الذي يتحدى فيها المفهوم المتداول للمستقبل داخل مفهوم الحتمية. يرفض دينيت الحديث عن المستقبل الحتمي بشكل كامل لأن المستقبل سيحدث في كل الأحوال بغض النظر عن صحة الحتمية من عدمها. لهذا فالحديث يجب أن يتوجه لأحداث محددة بعينها. بحسب دينيت نحن أمام تجربة واضحة نعرفها جميعا، وهي أن كثيرا من الكائنات الحية لديها القدرة على تجنّب آثار بعض الأحداث الطبيعية. يمكننا أن نأخذ مثلا المطر كظاهرة طبيعية محكومة بقانون الطبيعة ولكن نتائجها تتفاوت بحسب موقف الإنسان منها. الإنسان الذي يبني بيتا متماسكا وقويا يستطيع أن يتجنب آثار المطر الشديدة ويحافظ على حياته سليمة. في المقابل الفرد الذي لا يقوم بذلك سيتعرض بالتأكيد لنتائج مختلفة نتيجة لذات الظاهرة الطبيعية. هذا المشهد - بحسب دينيت - يوضح أن الحديث عن علاقة الحتمية بالمستقبل على أنها علاقة تؤدي إلى نتيجة بعينها لا يمكن تجنبها يبدو مضللا جدا. ما نشاهده عن قدرة الإنسان على تجنّب كثير من النتائج الطبيعية تثبت أن كائنات كثيرة ومنها الإنسان لديها القدرة على اتخاذ قرارات مؤثرة ومهمة داخل عالم حتمي. ما يفرق دانيت عن التحرريين هنا هو أن سلوك الفرد حينما يتجنّب الآثار المتوقعة لأحداث بعينها لا يعني الخروج على قانون الطبيعة بل يعني أن قانون الطبيعة لا يعني مستقبلا محددا سلفا بل يعني مستقبلا تحدده الأحداث والقوى التي تعمل الآن وهنا.

كعادة المواقف التوفيقية فإنها الأقرب لكثير من الناس باعتبار أنها لا تطلب منهم اتخاذ مواقف حادة في اتجاه دون الآخر ولكنها في حالات كثيرة تكون محاولة لتجنّب الأسئلة الأشد خطورة. هذه ليست بالضرورة حالة التوفيقية هنا ولكن لا بد من أخذ هذا في الحسبان عند التفكير بها، خصوصا تجاه قضية كحرية الإرادة تتأثر مواقفنا فيها ليس فقط بالمحاججات الفلسفية ولكن وربما بقدر أكبر بعوامل عاطفية ونفسية وبتصورنا الكبير للعالم ولأنفسنا ولما نريد أن نفعل في المستقبل. على كل حال التقدم المعاصر في علم الجينات وعلوم الدماغ ينبئ بمستقبل قريب يحمل معه تصورات أوضح وأكثر دقة عن طبيعة عمل دماغ الإنسان وكيف تتم القرارات والمواقف. هذه التصورات قد تجعل فهمنا لحرية الإرادة أكثر وضوحا ودقة أيضا. أو على الأقل هذا ما أتمنى.